Thursday, November 02, 2006

Self photo 2006

على هامش تراجع الجامعات المصرية (4)


على هامش تراجع الجامعات المصرية (4)

§ عاتبني بعض الزملاء الذين أعتز بهم إنني ألقيت كل الضوء على الاعتداءات على الحرية الأكاديمية وعلى استقلال الجامعة بعد مارس 1954، دون تسليط ضوء كافي على الاعتداءات المتكررة على الجامعة التي حدثت قبل ذلك. وإحقاقاً للحق لا بد أن نرصد أن الجامعة والحريات الفكرية والأكاديمية ومشاركة المرأة وكل ما يخص ديناميات التغير والتطور والنمو كانت دائما محورا لهجوم قوي مضادة للنمو وللحرية وللتطور وستظل كذلك طالما لم يتحول المجتمع بعد إلي ثقافة التفاعل والحوار ونبذ العنف وقبول الاختلاف كحق أساسي وكنشاط ضروري في طريق النمو والمعرفة.

§ ولكي نكون عادلين وإحقاقاً للحق وإتماماً للاستنارة يجب أن نرصد أن "غزوة الجامعة الكبرى" في 1954 لم تكن العدوان الوحيد ولا الأول ولا الأخير على الجامعة والاستقلال والحرية الأكاديمية وما تحتاجه الجامعة لتكون جامعة حقا، من حرية الفكر وحرية البحث وحرية التعبير والاستقصاء والمشاطرة والتواصل والحقوق المتساوية للجامعيين، من الطالب إلى الأستاذ مواطنين محصنين ذكوراً وإناثاً مؤهلاتهم الكفاءة والسعي والبحث والعمل في محراب العلم والمعرفة بأنواعها، لهم كل الحريات الضرورية مصونة في البحث والتعبير وطلب العلم والمعرفة والتواصل بكل الطرق.

نرصد أنه كانت في البلاد منذ بداية حركة النهضة الحديثة في بداية القرن التاسع عشر قوى مقاومة للتطور والتغيير وللفكر نحتاج أن ننضج إلى تشخيصها، ليس في جناة وأشرار خارجيين كعادتنا المستسهلة، ولكن في أنفسنا وفي خوفنا العميق من الحركة ومقاومتنا للتغيير. فقد حاربنا قاسم أمين وعرضناه للاضطهاد وربما للموت المبكر، كما حاربنا طه حسين وأجهضنا مشروعه الفكري والعلمي والبحثي، وأجهضنا اجتهاد علي عبد الرازق الشجاع وأمثاله، وإن كان أخطأ فله أجر وإن كان أصاب فله أجران، لوقوعنا ضحية سهلة لدعاة السلفية والثبات العقيم ومقاومتنا الاتوماتيكية للمجددين وللمجتهدين والمبدعين في أمور الدنيا والدين. قد خسرنا الكثير لعدم دفاعنا عن النسيج المناسب الذي يتيح لمبدعينا وعظمائنا من المخترقين علما أو فكراً أو فناً أو فقهاً، الازدهار الكامل والعطاء المتكامل والتواصل الآمن.


§ فروق جوهرية بين الهجوم علي الجامعة وحقوقها والحريات الأكاديمية قبل وبعد 1954

ومهما كان في تاريخنا الحديث من مآسي ودروس وعبر وعدوان متكرر على الجامعة والجامعيين والحرية الأكاديمية وعلى أصحاب الرأي والرؤيا المبدعة والفكر الحُر، فإن هناك فروقاً جوهرية بين "الغزوات" المضادة للجامعة وللحرية الأكاديمة والفكرية والبحثية قبل وبعد مارس 1954. وقد كانت "الغزوات" السابقة تأتي في جو مجتمع لم تزل به ديناميات ومساحة للحركة، تتنازعه قوى معظمها بكل أسف ديكتاتوري وأحادي في التوجه دون أن تكون الغلبة المطلقة لأي طرف وهذا أعطى المساحة للمجتمع أن ينمو ويتطور وللجامعة أن تنمو وتتطور رغماً عن القوى المضادة للتطور بما فيها "السراي، الانجليز، أحزاب الأقلية، اليسار المنغلق في الكتاب الماركسي المقدس، واليمين المنغلق في حرفية فَهْم محدود ومجمد للكتاب المنزل المقدس بلا فلسفة أو فكر جديد". وبفضل وجود مساحة للحركة وسط هذه الديناميات المتصارعة والمتضادة كانت هناك مساحة للتطور القومي ولتقدم الجامعة ـ رغم الهجوم ـ تقدماً هائلاً أفرزت خلاله الجامعة العمالقة في كل مجال وقبلت الجامعة الطالبات جنبا إلي جنب مع الطلبة في أواخر العشرينات كما قبلت المرأة عضوا في هيئة التدريس في كلية العلوم مع مطلع الثلاثينات كما هو مسجل في تاريخ مصر الحديث قبل مارس 1954. والذي حدث بعد مارس 1954 أنه لم تعد هناك مساحة للتفاعل ولا ديناميات متفاعلة أو متصارعة، بل ضاعت الديناميات تماماً في ظل سلطة واحدة ساحقة ماحقة لا ديناميات أو حوار معها. ووُلُد المجتمع الاستاتيكي الذي ينكر ويلغي الكفاح الكبير الذي مرت به مصر في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين من أجل ديناميات تطور وتنوير ومن أجل الدفاع عن دستور ليبرالي ديمقراطي تقدمي ومن أجل مشروع وفكر وفقه إسلامي يتفاعل مع الحداثة بكل قوة وإبداع وأصالة (الشيخ محمد عبده)، كل هذا التاريخ الرائع تم تقزيمه ونسيانه من أجل تسهيل السقوط في حلزون الانتكاس إلى مجتمع محكوم برؤيا أحادية لا يعقل ولا يتصور أن تحدث فيه حركة، أي حركة، إلا من أعلى وإن حدثت حركة، أي حركة، من القواعد فهي تُبتر وتُسحق فوراً من أعلى بلا نقض أو إبرام.

§ مصيبة تقنين "الشرعية الثورية" وإدخالها في نسيج المجتمع الفكري والقانوني بعد انقضاء الفترة الانتقالية

§ إننا كمجتمع سقطنا في فخ فظيع ولا نزال نعاني من توابع هذا السقوط.. ألا وهو تقنين وتشريع مرحلة ما سمي "بالشرعية الثورية" وهو خطأ وخطيئة كفيلة بتعقيم أي مجتمع.

§ وإن كان لا بد من "شرعية ثورية"، وهو ما لا أتفق معه ـ فلتكن كما هي فعلا شرعية سلطوية ثورية غير قانونية كما هي مفاهيمياً وفكرياً لضمان أن تظهر لا قانونيتها بطريقة زاعقة فور انتهاء مرحلتها، ويصبح من المستحيل والشاذ استمرارها لأنها استثناء مرحلي ثوري شاذ لا يُمَكّن من تغيير القيم الطبيعية القانونية اللازمة لصلاح المجتمعات، ينتفي ويذوي بمجرد انتفاء مرحلتها. أما ما فعلناه بتقنين وتركيب "الشرعية الثورية" الاستثنائية في نسيج المجتمع وتشريعاته وفكره ودستوره مع اقحام تقاليد سلوكية ومفاهيمية جديدة مريضة، فهو مصيبة كبري، لا زلنا نعيش توابعها في كل مجال، وقد تحولت هذه اللوائح والقوانين إلي مناخ تشريعي خانق وقاتل لكل وأي مبادرات قاعدية طبيعية لا تحلم أي حركة قاعدية بالتواجد دون "ترخيص" ودون تسليم نفسها للسيطرة الكاملة للسلطة المركزية الأحادية، مسبقا، كما تحولت هذه الأيديولوجية ـ التي تخطاها الزمن، والتي هي من عجب عكس مفهوم الثورة التي يفترض أن تؤدي إلى توسيع دوائر التمكين ورفع كفاءته وفعاليته ـ تحولت هذه الأيديولوجية إلى سلوك وفكر وثقافة سائدة وتطبيق مزمن ً يُجهض قدرات الشعب ويهدر طاقاته في خليط من ثقافة الاستسلام والخوف من الصدق ومن التعبير ومن الفعل المؤثر في أي مجال مع الايمان والاستسلام الكامل لواقع جديد مفروض أن السلطان (الريس الأعلي لكل شئ) مصدر السلطات والمال والمناصب وكل شئ وهو مصدر الجنة والحقوق والسلطة إذا رضى، والنار والويلات وعالم "القانون في أجازة"، إذا غضب، مع الاستسلام الفكري والسلوكي لواقع أن الحكومة والسلطة صاحبة الحق في تسيير كل شيء على هواها بما في ذلك ما يسمى بالإرادة الحرة للشعب. وللناظر في ما حدث ويحدث في الانتخابات بعد 1954، أي انتخابات سواء على مستوى الجامعة أو حتى على مستوى الوطن يجد أنها تسير حسب رغبة السلطة وطلبها وعلى جميع الأطراف الانصياع. وتأكيداً لما ذكرناه من مصيبة تشريع الشرعية الثورية المرحلية، تم مثلاً مأسسة عمليات تحوير الانتخابات على المستوى القومي وعلى المستوى الطلابي في الجامعات على هوى السلطة كحدث طبيعي، ومن الناموس.كما تم مأسسة تبعية الجامعات ومراكز الأبحاث للسلطة! (من النقاط المضيئة التي تطمئننا أن شعلة الحياة والحق لا تموت، شهادة المستشارة نهى الزيني عن تحوير الانتخابات الحالية حسب رغبة السلطة)

§ ولكي أشجع الاختراق المطلوب والضروري للعلاج، دون تشنجات مستميتة في الدفاع عن ماضي قريب ضل الطريق إلى النهضة والتطور، فأنا على استعداد لإفتراض أن من قاموا بعمليات سحب التمكين من الشعب ومؤسساته ـ بالتشريعات التي تنفذ أيديولوجية الدولة

المركزية الأحادية، أو بغزوات الاغتصاب المباشر ـ كانوا يعتقدون ربما بكل إخلاص أن هذه التتابعات هي خدمة ضرورية للوطن وهي طريق النهضة والرفعة والقوة. وكيف كان لهم أن يتنبأوا ـ والجميع في نشوة السعادة والانبهار بأحداث عزل الملك 26 يوليو 1952 أو بتأميم القناة وانتصارات أكتوبر1956 ـ أن تعقيم ديناميات التعدد وأن غزو الجامعة واخضاعها، وأن منهاج إختزال الوطن ومؤسساته إلى سلطة أحادية تنتهي كلها إلي الزعيم القائد المنتصر الملهم بلا استقلالية أو فصل للسلطات، هو طريق مسدود يؤدي مؤكدا إلى الانهيار والضياع والكارثة في النهاية؟

ولكي نلتمس العذر، كيف كان لهؤلاء الذين حققوا نفس التتابعات في الاتحاد السوفيتي وفي العراق بسحب التمكين من كل فئات المجتمع وتعقيمه من التفاعل والديناميات بإسم النهضة المأمولة والجنة الموعودة والانتصارات المؤزرة القادمة وبإسم الملايين المقهورة ينوب عنها الزعيم ـ نصف الإله أو العارف بالله وحده ـ ومعه القلة ـ الأوليجاركية ـ التي منحت لنفسها الوصاية ـ المؤبدة عملياً ـ على الملايين المقهورة بإسم الملايين المقهورة!. كيف كان لهؤلاء المُخْلِصين "المُخَلِّصين" كما رأوا أنفسهم أن يتنبأوا بأنهم يقودون أوطانهم وشعوبهم إلي كوارث محققة وكيف كان لهم أن يتصوروا 1967 في مصر وكيف كان لهم أن يتصوروا السقوط المدوي للإتحاد السوفيتي 1990 وكوارث العراق الممتدة منذ حرب الخليج الأولى وكوارث السقوط المروع والعام والمستمر للعراق منذ 1990 وحتى الآن.

وهل للإتجاهات المختلفة والقوى السياسية أن تستمر، كما نراها، في عناد أسطوري، في إغماض الأعين وإنكار الدروس عن سقوط "الدوجما" (الدوجما هي منظومة فكر أحادي ثابت يُرفع بالتقديس المنسوب إلى السماء أو إلى عبقري أرضي معبود أو شبه معبود (ماركس مثلاً) ليصبح غير قابل للحوار أو للتطوير أو للتفاعل مع آخر أو آخرين أو مع الأحداث والوقائع الدامغة. وهذا المنظور الجامد يفترض أوتوماتيكياً وبراحة فكرية وبكسل فكري فريد أن المختلف مسكين أو شرير على خطأ وقصور في الفهم.)

وهل نستمر في تجاهل الفشل المتصاعد لكافة تنويعات الرؤيا الأحادية الثابتة صاحبة البراعة في التنكر تحت أي ستار بلا تفاعل وبلا مساحة للتفاعل أو الحركة؟ وهل لنا أن نستمر في استمراء السقوط في براثن "الدوجما الأحادية" التي سقطت السقوط المدوي في كل اختبار وفي كل مكان ورغم ذلك لها جرأة أبدية في أن تخرج لنا حية مغرورة مستأسدة عنيدة من ركام الأمم والشعوب والمجتمعات التي عقمتها وحطمتها، وقد تأستذت الديكتاتورية الأحادية في الاستمرارية تحت كل ستار وأي ستار متنكرة في أزياء "آخر موضة وكل موضة"! مبدعة في قدراتها المدهشة على "تمثيل" كل متطلبات العصر والتطور والحداثة، وقد أعطت نفسها "نيو لوك" تحمي به نفسها وتحمي تشريعاتها الماكيافيللية التي تمنع التعددية والحركة والتفاعل من الكشف والعلاج والتطهير. نظم شلل وإزمان تمنع عبقرية المجتمعات المصابة بها من الوعي ومن تكوين أجسام مناعية فعالة مضادة تتيح بقضائها علي فيروس "الدوجما"، الحركة والتفاعل الحر والنمو والتطور، تماما مثل ميكروب الإيدز الذي يدافع عن حقه في أن يترعرع على حساب المجتمع المصاب بشل جهازه المناعي وخداعه.

§ فلنُسَلِّم إذاً من أجل البعد عن اللجج ومن أجل توجيه كل الطاقات إلى التطور، ولنؤكد أن هدفنا ليس الادانة ولكن الوعي والتنوير والعلاج، أن كل ما تقدم من كوارث وأخطاء واعتداءات وانحرافات، كان ضرورة مرحلية، ولكن الغير مغتفر حقا ألا نسارع بتطهير مجتمعنا من ترسانة التشريعات الماكيافللية الساحبة للتمكين والمانعة للتعددية وللتفاعل والتي تجعل من السلطة المركزية الأحادية بلا فصل حقيقي بين السلطات، "كل شئ" في هذه المنظومة، والمجتمع بقواعده ومؤسساته ومنها الجامعات طبعاً، وباتجاهاته المتعددة والمختلفة بالطبيعة، كيان معتمد مشلول ينتظر التوجيهات من أعلي، "لا شئ"!!

د. طارق علي حسن

tali@idsc.net.eg


على هامش تراجع الجامعات المصرية (4)

عبد الناصر و السنهوري (يسير خلفه ) و محمد نجيب
مصير مصر ومستقبلها و الأجيال في الميزان
فهل من يقرأ لنا بحق ماذا كان يدور بخلد كل واحد من هؤلاء الثلاثة؟؟؟
أستاذ أساتذةالقانون المدني و القانون الدستوري يمهد الطريق للحكم العسكري وحل البرلمان و إلغاء الدستور
و هل من يستشف لنا الدوافع الحقيقية خلف مواقف وقرارات كل طرف؟؟؟

على هامش تراجع الجامعات المصرية (4)

§ عاتبني بعض الزملاء الذين أعتز بهم إنني ألقيت كل الضوء على الاعتداءات على الحرية الأكاديمية وعلى استقلال الجامعة بعد مارس 1954، دون تسليط ضوء كافي على الاعتداءات المتكررة على الجامعة التي حدثت قبل ذلك. وإحقاقاً للحق لا بد أن نرصد أن الجامعة والحريات الفكرية والأكاديمية ومشاركة المرأة وكل ما يخص ديناميات التغير والتطور والنمو كانت دائما محورا لهجوم قوي مضادة للنمو وللحرية وللتطور وستظل كذلك طالما لم يتحول المجتمع بعد إلي ثقافة التفاعل والحوار ونبذ العنف وقبول الاختلاف كحق أساسي وكنشاط ضروري في طريق النمو والمعرفة.

§ ولكي نكون عادلين وإحقاقاً للحق وإتماماً للاستنارة يجب أن نرصد أن "غزوة الجامعة الكبرى" في 1954 لم تكن العدوان الوحيد ولا الأول ولا الأخير على الجامعة والاستقلال والحرية الأكاديمية وما تحتاجه الجامعة لتكون جامعة حقا، من حرية الفكر وحرية البحث وحرية التعبير والاستقصاء والمشاطرة والتواصل والحقوق المتساوية للجامعيين، من الطالب إلى الأستاذ مواطنين محصنين ذكوراً وإناثاً مؤهلاتهم الكفاءة والسعي والبحث والعمل في محراب العلم والمعرفة بأنواعها، لهم كل الحريات الضرورية مصونة في البحث والتعبير وطلب العلم والمعرفة والتواصل بكل الطرق.

نرصد أنه كانت في البلاد منذ بداية حركة النهضة الحديثة في بداية القرن التاسع عشر قوى مقاومة للتطور والتغيير وللفكر نحتاج أن ننضج إلى تشخيصها، ليس في جناة وأشرار خارجيين كعادتنا المستسهلة، ولكن في أنفسنا وفي خوفنا العميق من الحركة ومقاومتنا للتغيير. فقد حاربنا قاسم أمين وعرضناه للاضطهاد وربما للموت المبكر، كما حاربنا طه حسين وأجهضنا مشروعه الفكري والعلمي والبحثي، وأجهضنا اجتهاد علي عبد الرازق الشجاع وأمثاله، وإن كان أخطأ فله أجر وإن كان أصاب فله أجران، لوقوعنا ضحية سهلة لدعاة السلفية والثبات العقيم ومقاومتنا الاتوماتيكية للمجددين وللمجتهدين والمبدعين في أمور الدنيا والدين. قد خسرنا الكثير لعدم دفاعنا عن النسيج المناسب الذي يتيح لمبدعينا وعظمائنا من المخترقين علما أو فكراً أو فناً أو فقهاً، الازدهار الكامل والعطاء المتكامل والتواصل الآمن.


§ فروق جوهرية بين الهجوم علي الجامعة وحقوقها والحريات الأكاديمية قبل وبعد 1954

ومهما كان في تاريخنا الحديث من مآسي ودروس وعبر وعدوان متكرر على الجامعة والجامعيين والحرية الأكاديمية وعلى أصحاب الرأي والرؤيا المبدعة والفكر الحُر، فإن هناك فروقاً جوهرية بين "الغزوات" المضادة للجامعة وللحرية الأكاديمة والفكرية والبحثية قبل وبعد مارس 1954. وقد كانت "الغزوات" السابقة تأتي في جو مجتمع لم تزل به ديناميات ومساحة للحركة، تتنازعه قوى معظمها بكل أسف ديكتاتوري وأحادي في التوجه دون أن تكون الغلبة المطلقة لأي طرف وهذا أعطى المساحة للمجتمع أن ينمو ويتطور وللجامعة أن تنمو وتتطور رغماً عن القوى المضادة للتطور بما فيها "السراي، الانجليز، أحزاب الأقلية، اليسار المنغلق في الكتاب الماركسي المقدس، واليمين المنغلق في حرفية فَهْم محدود ومجمد للكتاب المنزل المقدس بلا فلسفة أو فكر جديد". وبفضل وجود مساحة للحركة وسط هذه الديناميات المتصارعة والمتضادة كانت هناك مساحة للتطور القومي ولتقدم الجامعة ـ رغم الهجوم ـ تقدماً هائلاً أفرزت خلاله الجامعة العمالقة في كل مجال وقبلت الجامعة الطالبات جنبا إلي جنب مع الطلبة في أواخر العشرينات كما قبلت المرأة عضوا في هيئة التدريس في كلية العلوم مع مطلع الثلاثينات كما هو مسجل في تاريخ مصر الحديث قبل مارس 1954. والذي حدث بعد مارس 1954 أنه لم تعد هناك مساحة للتفاعل ولا ديناميات متفاعلة أو متصارعة، بل ضاعت الديناميات تماماً في ظل سلطة واحدة ساحقة ماحقة لا ديناميات أو حوار معها. ووُلُد المجتمع الاستاتيكي الذي ينكر ويلغي الكفاح الكبير الذي مرت به مصر في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين من أجل ديناميات تطور وتنوير ومن أجل الدفاع عن دستور ليبرالي ديمقراطي تقدمي ومن أجل مشروع وفكر وفقه إسلامي يتفاعل مع الحداثة بكل قوة وإبداع وأصالة (الشيخ محمد عبده)، كل هذا التاريخ الرائع تم تقزيمه ونسيانه من أجل تسهيل السقوط في حلزون الانتكاس إلى مجتمع محكوم برؤيا أحادية لا يعقل ولا يتصور أن تحدث فيه حركة، أي حركة، إلا من أعلى وإن حدثت حركة، أي حركة، من القواعد فهي تُبتر وتُسحق فوراً من أعلى بلا نقض أو إبرام.

§ مصيبة تقنين "الشرعية الثورية" وإدخالها في نسيج المجتمع الفكري والقانوني بعد انقضاء الفترة الانتقالية

§ إننا كمجتمع سقطنا في فخ فظيع ولا نزال نعاني من توابع هذا السقوط.. ألا وهو تقنين وتشريع مرحلة ما سمي "بالشرعية الثورية" وهو خطأ وخطيئة كفيلة بتعقيم أي مجتمع.

§ وإن كان لا بد من "شرعية ثورية"، وهو ما لا أتفق معه ـ فلتكن كما هي فعلا شرعية سلطوية ثورية غير قانونية كما هي مفاهيمياً وفكرياً لضمان أن تظهر لا قانونيتها بطريقة زاعقة فور انتهاء مرحلتها، ويصبح من المستحيل والشاذ استمرارها لأنها استثناء مرحلي ثوري شاذ لا يُمَكّن من تغيير القيم الطبيعية القانونية اللازمة لصلاح المجتمعات، ينتفي ويذوي بمجرد انتفاء مرحلتها. أما ما فعلناه بتقنين وتركيب "الشرعية الثورية" الاستثنائية في نسيج المجتمع وتشريعاته وفكره ودستوره مع اقحام تقاليد سلوكية ومفاهيمية جديدة مريضة، فهو مصيبة كبري، لا زلنا نعيش توابعها في كل مجال، وقد تحولت هذه اللوائح والقوانين إلي مناخ تشريعي خانق وقاتل لكل وأي مبادرات قاعدية طبيعية لا تحلم أي حركة قاعدية بالتواجد دون "ترخيص" ودون تسليم نفسها للسيطرة الكاملة للسلطة المركزية الأحادية، مسبقا، كما تحولت هذه الأيديولوجية ـ التي تخطاها الزمن، والتي هي من عجب عكس مفهوم الثورة التي يفترض أن تؤدي إلى توسيع دوائر التمكين ورفع كفاءته وفعاليته ـ تحولت هذه الأيديولوجية إلى سلوك وفكر وثقافة سائدة وتطبيق مزمن ً يُجهض قدرات الشعب ويهدر طاقاته في خليط من ثقافة الاستسلام والخوف من الصدق ومن التعبير ومن الفعل المؤثر في أي مجال مع الايمان والاستسلام الكامل لواقع جديد مفروض أن السلطان (الريس الأعلي لكل شئ) مصدر السلطات والمال والمناصب وكل شئ وهو مصدر الجنة والحقوق والسلطة إذا رضى، والنار والويلات وعالم "القانون في أجازة"، إذا غضب، مع الاستسلام الفكري والسلوكي لواقع أن الحكومة والسلطة صاحبة الحق في تسيير كل شيء على هواها بما في ذلك ما يسمى بالإرادة الحرة للشعب. وللناظر في ما حدث ويحدث في الانتخابات بعد 1954، أي انتخابات سواء على مستوى الجامعة أو حتى على مستوى الوطن يجد أنها تسير حسب رغبة السلطة وطلبها وعلى جميع الأطراف الانصياع. وتأكيداً لما ذكرناه من مصيبة تشريع الشرعية الثورية المرحلية، تم مثلاً مأسسة عمليات تحوير الانتخابات على المستوى القومي وعلى المستوى الطلابي في الجامعات على هوى السلطة كحدث طبيعي، ومن الناموس.كما تم مأسسة تبعية الجامعات ومراكز الأبحاث للسلطة! (من النقاط المضيئة التي تطمئننا أن شعلة الحياة والحق لا تموت، شهادة المستشارة نهى الزيني عن تحوير الانتخابات الحالية حسب رغبة السلطة)

§ ولكي أشجع الاختراق المطلوب والضروري للعلاج، دون تشنجات مستميتة في الدفاع عن ماضي قريب ضل الطريق إلى النهضة والتطور، فأنا على استعداد لإفتراض أن من قاموا بعمليات سحب التمكين من الشعب ومؤسساته ـ بالتشريعات التي تنفذ أيديولوجية الدولة

المركزية الأحادية، أو بغزوات الاغتصاب المباشر ـ كانوا يعتقدون ربما بكل إخلاص أن هذه التتابعات هي خدمة ضرورية للوطن وهي طريق النهضة والرفعة والقوة. وكيف كان لهم أن يتنبأوا ـ والجميع في نشوة السعادة والانبهار بأحداث عزل الملك 26 يوليو 1952 أو بتأميم القناة وانتصارات أكتوبر1956 ـ أن تعقيم ديناميات التعدد وأن غزو الجامعة واخضاعها، وأن منهاج إختزال الوطن ومؤسساته إلى سلطة أحادية تنتهي كلها إلي الزعيم القائد المنتصر الملهم بلا استقلالية أو فصل للسلطات، هو طريق مسدود يؤدي مؤكدا إلى الانهيار والضياع والكارثة في النهاية؟

ولكي نلتمس العذر، كيف كان لهؤلاء الذين حققوا نفس التتابعات في الاتحاد السوفيتي وفي العراق بسحب التمكين من كل فئات المجتمع وتعقيمه من التفاعل والديناميات بإسم النهضة المأمولة والجنة الموعودة والانتصارات المؤزرة القادمة وبإسم الملايين المقهورة ينوب عنها الزعيم ـ نصف الإله أو العارف بالله وحده ـ ومعه القلة ـ الأوليجاركية ـ التي منحت لنفسها الوصاية ـ المؤبدة عملياً ـ على الملايين المقهورة بإسم الملايين المقهورة!. كيف كان لهؤلاء المُخْلِصين "المُخَلِّصين" كما رأوا أنفسهم أن يتنبأوا بأنهم يقودون أوطانهم وشعوبهم إلي كوارث محققة وكيف كان لهم أن يتصوروا 1967 في مصر وكيف كان لهم أن يتصوروا السقوط المدوي للإتحاد السوفيتي 1990 وكوارث العراق الممتدة منذ حرب الخليج الأولى وكوارث السقوط المروع والعام والمستمر للعراق منذ 1990 وحتى الآن.

وهل للإتجاهات المختلفة والقوى السياسية أن تستمر، كما نراها، في عناد أسطوري، في إغماض الأعين وإنكار الدروس عن سقوط "الدوجما" (الدوجما هي منظومة فكر أحادي ثابت يُرفع بالتقديس المنسوب إلى السماء أو إلى عبقري أرضي معبود أو شبه معبود (ماركس مثلاً) ليصبح غير قابل للحوار أو للتطوير أو للتفاعل مع آخر أو آخرين أو مع الأحداث والوقائع الدامغة. وهذا المنظور الجامد يفترض أوتوماتيكياً وبراحة فكرية وبكسل فكري فريد أن المختلف مسكين أو شرير على خطأ وقصور في الفهم.)

وهل نستمر في تجاهل الفشل المتصاعد لكافة تنويعات الرؤيا الأحادية الثابتة صاحبة البراعة في التنكر تحت أي ستار بلا تفاعل وبلا مساحة للتفاعل أو الحركة؟ وهل لنا أن نستمر في استمراء السقوط في براثن "الدوجما الأحادية" التي سقطت السقوط المدوي في كل اختبار وفي كل مكان ورغم ذلك لها جرأة أبدية في أن تخرج لنا حية مغرورة مستأسدة عنيدة من ركام الأمم والشعوب والمجتمعات التي عقمتها وحطمتها، وقد تأستذت الديكتاتورية الأحادية في الاستمرارية تحت كل ستار وأي ستار متنكرة في أزياء "آخر موضة وكل موضة"! مبدعة في قدراتها المدهشة على "تمثيل" كل متطلبات العصر والتطور والحداثة، وقد أعطت نفسها "نيو لوك" تحمي به نفسها وتحمي تشريعاتها الماكيافيللية التي تمنع التعددية والحركة والتفاعل من الكشف والعلاج والتطهير. نظم شلل وإزمان تمنع عبقرية المجتمعات المصابة بها من الوعي ومن تكوين أجسام مناعية فعالة مضادة تتيح بقضائها علي فيروس "الدوجما"، الحركة والتفاعل الحر والنمو والتطور، تماما مثل ميكروب الإيدز الذي يدافع عن حقه في أن يترعرع على حساب المجتمع المصاب بشل جهازه المناعي وخداعه.

§ فلنُسَلِّم إذاً من أجل البعد عن اللجج ومن أجل توجيه كل الطاقات إلى التطور، ولنؤكد أن هدفنا ليس الادانة ولكن الوعي والتنوير والعلاج، أن كل ما تقدم من كوارث وأخطاء واعتداءات وانحرافات، كان ضرورة مرحلية، ولكن الغير مغتفر حقا ألا نسارع بتطهير مجتمعنا من ترسانة التشريعات الماكيافللية الساحبة للتمكين والمانعة للتعددية وللتفاعل والتي تجعل من السلطة المركزية الأحادية بلا فصل حقيقي بين السلطات، "كل شئ" في هذه المنظومة، والمجتمع بقواعده ومؤسساته ومنها الجامعات طبعاً، وباتجاهاته المتعددة والمختلفة بالطبيعة، كيان معتمد مشلول ينتظر التوجيهات من أعلي، "لا شئ"!!

د. طارق علي حسن

tali@idsc.net.eg


3rd of series on decline of Egyptian Universities

علي هامش تراجع الجامعات المصرية (3)

محاولة اختراق جدار النسيان من أجل الخروج من غياهب التخلف.

كان للجامعة أيلول أسود سنة 1954 لا أدري لماذا نسيناه؟ ولماذا نتناساه؟

نتابع رصد مأساة تراجع الجامعات المصرية، ولا حاجة بنا لتكرار أن الجامعة في كل بلد هي أهم جبهة للمجتمع لالتقاط وتغذية عبقرياته وهي نهر الحياة وجبهة التطور والنمو له، وهي ملاذ المجتمع الحقيقي وسلاحه الأقوى وجبهته المتقدمة في مجال البحث المستمر لمواجهة تحديات العصر كل عصر والتنبؤ بها واستباقها، وهذا هو الطريق الحقيقي والوحيد لأمن الدولة في العصر الحديث، ننسى أو نتناسى الحقائق المزلزلة والدالة في تتابعات الإهدار العمدي لاستقلال الجامعة ولدعائم الحرية الأكاديمية. نذكر أيلول الأسود بالنسبة للمقاومة الفلسطينية عام 1970 ونذكر يونيو الأسود عام 1967 ونذكر أيلول الأسود2001 بالنسبة لبرج التجارة العالمي، ونتناسى متعمدين أنه كان للجامعة أيلول أسود عام 1954 بعد أيام من بدء "غزوة" الصاغ كمال الكبرى للجامعة من أجل إخضاع المثقفين "الجهلة" كما سمتهم المظاهرات التي حركها وقادها الصاغ طعيمة والصاغ الطحاوي في طريقهم لضرب وإرهاب وتأديب السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة وباقي القضاة أثناء تتابعات تلقين المصريين من كل الطبقات من الغفير والعامل (خميس والبقري) إلى كبير القضاة (عبد الرازق السنهوري باشا) الدروس اللازمة بشأن الانصياع المطلق للسلطة الأحادية الجديدة. وكان العالمون ببواطن الأمور والحكماء والعلماء حقاً، يعرفون أنه ستلي هذه "الغزوات" بالضرورة "غزوات تعليمية تأديبية تربوية" أخري، ما سُمى في حينه "لجان التطهير"، "محاكم" الغدر، (وهي مجرد اسم من أسماء المحاكم الاستثنائية العديدة أومحاكم "الكانجارو" التي وضعت بصماتها عمداً وبقوة في وعي ووجدان الشعب)، مذبحة الأحزاب ومذبحة القضاء ومذبحة الصحافة ومذبحة النقابات ... إلخ. وهو الطريق الطبيعي لاختزال الوطن كله في سلطة مركزية واحدة أحادية تبتلع كل السلطات والصلاحيات الأخرى وتعليم الجميع الاستسلام لهذا الواقع الجديد على أنه من الناموس. وذلك ـ لكل من يملك النظرة البعيدة والحكيمة ـ هو التعريض الحقيقي لأمن الدولة لأشد المخاطر كما أثبت ويثبت التاريخ.

العجيب حقاً أن الجامعة تلقت هذه "غزوة 54" الساحقة بمقاومة ضعيفة أو بلا مقاومة وبلا تأريخ وهُزمت فيها هزيمة ساحقة لا تقل حجم الكارثة فيها عن هزيمة يونيو 1967 والأعجب أنه تلت هذه التتابعات المزلزلة فقدان للذاكرة ونسيان كامل وإنكار لأبطال المواجهة من الجامعيين الذين فُصلوا فصلا جماعياً أو الذين أرغموا على الانكماش إلى قوقعة الرفض السلبي الصامت أو اتجهوا للهجرة. وفي كل الأحوال فقدتهم الجامعة وفقدهم الوطن.

جبال من التشريعات المنحرفة لن تنهض الجامعات ولن ينهض المجتمع بدون تشخيصها بحكمة ثم تنقيتها وتطهيرها جذرياً

كفانا تمسكاً بحقبة ماضية ربما كانت لها ـ من وجهة نظرها ـ مبرراتها لتُطبق بالقوة فلسفة التمكين الكامل لسلطة مركزية أحادية أدت على الأمد الطويل كما نرى بوضوح إلى انتكاس المجتمع إلى نوع من ملكيات العصور الوسطى حيث:

- السلطة مصدر السلطات

- القوة تحدد الحق والحقيقة وهي فوقهما معاً

- الحكومة سيدة الأمة والوصية عليها والأمة تابعة للحكومة.

ويرحم الله سعد زغلول الذي رفع شعار وتطبيق الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة.

لا أدري لماذا نتمادى ونزمن في التصفيق والاعجاب المستميت بماضي أدى إلى حاضر مختنق، بينما أمامنا طرق أكثر نضوجا وعلمية وفعالية بل وضرورية ضرورة مطلقة للخروج من عنق الزجاجة الذي نشكو ونتباكي ونحن محشورين مهمشين نتفرج دون أن نكون فاعلين أو مؤثرين على عالم يتجاهلنا ويتخطانا! ويدهمنا ويسحقنا ويهددنا دورياً بلا أدنى اعتبار لارادتنا أو مصالحنا أو مشاعرنا.

كل التشريعات التي أحاطت بهذا الشعب منذ 1954 والستينات عملت وتعمل علي تقنين سيطرة الحكم المركزي الديكتاتوري، وولدت في ظل إيديولوجية سحب التمكين من الأمة والمواطنين وتقديم التمكين الكامل بلا آليات مساءلة أو مراجعة لسلطة مركزية أحادية تنتهي إلي شخص "الريس"، رئيس الجمهورية الزعيم ودائرته الصغيرة، بلا ضابط أو رابط مع سحب آليات الفصل بين السلطات.

إننا كمجتمع سقطنا في فخ فظيع ولا نزال نعاني من توابع هذا السقوط.. ألا وهو تقنين وتشريع مرحلة ما سمي "بالشرعية الثورية" وهو خطأ وخطيئة كفيلة بتعقيم أي مجتمع. وإن كان لا بد من "شرعية ثورية"، وهو ما لا أتفق معه ـ فلتكن كما هي فعلا شرعية سلطوية ثورية غير قانونية كما هي مفاهيمياً وفكرياً لضمان أن تظهر لا قانونيتها فور انتهاء مرحلتها، ويصبح من المستحيل والشاذ استمرارها لأنها استثناء مرحلي ثوري شاذ لا يُمَكّن من تغيير القيم الطبيعية القانونية اللازمة لصلاح المجتمعات، ينتفي ويذوي بمجرد انتفاء مرحلتها. أما ما فعلناه بتقنين وتركيب "الشرعية الثورية" الاستثنائية في نسيج المجتمع وتشريعاته وفكره ودستوره فهو مصيبة كبري، لا زلنا نعيش توابعها في كل مجال، وقد تحولت هذه اللوائح والقوانين إلي مناخ تشريعي خانق وقاتل لكل وأي مبادرات قاعدية طبيعية لا تحلم أي حركة قاعدية بالتواجد دون "ترخيص" ودون تسليم نفسها للسيطرة الكاملة للسلطة المركزية الأحادية مسبقا، كما تحولت هذه الأيديولوجية ـ التي تخطاها الزمن والتي هي من عجب عكس مفهوم الثورة التي يفترض أن تؤدي إلى توسيع دوائر التمكين ورفع كفاءته وفعاليته ـ تحولت هذه الأيديولوجية إلى سلوك وفكر وثقافة سائدة تمثل مرضاً مزمناً يُجهض قدرات الشعب ويهدر طاقاته في خليط من ثقافة الاستسلام والخوف من الصدق ومن التعبير ومن الفعل المؤثر في أي مجال مع الايمان والاستسلام الكامل لواقع جديد مفروض أن السلطان (الريس الأعلي لكل شئ) مصدر السلطات والمال والمناصب وكل شئ وهو مصدر الجنة والحقوق إذا رضى، والنار والويلات وعالم "القانون في أجازة" إذا غضب، مع الاستسلام الفكري والسلوكي لواقع أن الحكومة والسلطة صاحبة الحق في تسيير كل شيء على هواها بما في ذلك ما يسمى بالإرادة الحرة للشعب. وللناظر ما حدث ويحدث في الانتخابات أي انتخابات سواء على مستوى الجامعة أو حتى على مستوى الوطن وهي تسير حسب رغبة السلطة وطلبها وعلى جميع الأطراف الانصياع. وتأكيداً لما ذكرناه من مصيبة تشريع الشرعية الثورية المرحلية، تم مثلاً مأسسة عمليات تحوير الانتخابات على المستوى القومي وعلى المستوى الطلابي في الجامعات على هوى السلطة كحدث طبيعي، ومن الناموس.

ولكي أشجع الاختراق المطلوب والضروري، دون تشنجات مستميتة في الدفاع عن ماضر قريب ضل الطريق إلى النهضة والتطور، فأنا على استعداد لإفتراض أن من قاموا بعمليات سحب التمكين من الشعب ومؤسساته ـ بالتشريعات التي تنفذ أيديولوجية الدولة المركزية الأحادية، أو بغزوات الاغتصاب المباشر ـ كانوا يعتقدون ربما بكل إخلاص أن هذه التتابعات هي خدمة ضرورية للوطن وهي طريق النهضة والرفعة والقوة. وكيف كان لهم أن يتنبأوا ـ والجميع في نشوة السعادة والانبهار بأحداث عزل الملك 26 يوليو 1952 أو بتأميم القناة وانتصارات أكتوبر1956 ـ أن تعقيم ديناميات التعدد وأن منهاج إختزال الوطن ومؤسساته إلى سلطة أحادية تنتهي كلها إلي الزعيم القائد المنتصر الملهم بلا استقلالية أو فصل للسلطات، هو طريق مسدود يؤدي مؤكدا إلى الانهيار والضياع والكارثة في النهاية.

ولكي نلتمس العذر، كيف كان لهؤلاء الذين حققوا نفس التتابعات في الاتحاد السوفيتي وفي العراق بسحب التمكين من كل فئات المجتمع وتعقيمه من التفاعل والديناميات بإسم النهضة المأمولة والجنة الموعودة والانتصارات المؤزرة القادمة وبإسم الملايين المقهورة ينوب عنها الزعيم ـ نصف الإله أو العارف بالله وحده ـ ومعه القلة ـ الأوليجاركية ـ التي منحت لنفسها الوصاية ـ المؤبدة عملياً ـ على الملايين المقهورة بإسم الملايين المقهورة!. كيف كان لهؤلاء المُخْلِصين "المُخَلِّصين" كما رأوا أنفسهم أن يتنبأوا بأنهم يقودون أوطانهم وشعوبهم إلي كوارث محققة وكيف كان لهم أن يتصوروا 1967 في مصر وكيف كان لهم أن يتصوروا السقوط المدوي للإتحاد السوفيتي 1990 وكوارث العراق الممتدة منذ حرب الخليج الأولى وكوارث السقوط المروع والعام والمستمر للعراق منذ 1990 وحتى الآن.

وهل للإتجاهات المختلفة والقوى السياسية أن تستمر، كما نراها، في عناد أسطوري، في إغماض الأعين وإنكار الدروس عن سقوط "الدوجما" ([1]) وكافة تنويعات الرؤيا الأحادية الثابتة صاحبة البراعة في التنكر تحت أي ستار بلا تفاعل وبلا مساحة للتفاعل أو الحركة؟ وهل لنا أن نستمر في استمراء السقوط في براثن "الدوجما الأحادية" التي سقطت السقوط المدوي في كل اختبار وفي كل مكان ورغم ذلك لها جرأة أبدية في أن تخرج لنا حية مغرورة مستأسدة عنيدة من ركام الأمم والشعوب والمجتمعات التي عقمتها وحطمتها، وقد تأستذت الديكتاتورية الأحادية في الاستمرارية تحت كل ستار وأي ستار متنكرة في أزياء "آخر موضة وكل موضة"! مبدعة في قدراتها المدهشة على "تمثيل" كل متطلبات العصر والتطور والحداثة، وقد أعطت نفسها "نيو لوك" تحمي به نفسها وتحمي تشريعاتها الماكيافيللية التي تمنع التعددية والحركة والتفاعل من الكشف والعلاج والتطهير. نظم شلل وإزمان تمنع عبقرية المجتمعات المصابة بها من الوعي ومن تكوين أجسام مناعية فعالة مضادة تتيح بقضائها علي فيروس "الدوجما"، الحركة والتفاعل الحر والنمو والتطور، تماما مثل ميكروب الإيدز الذي يدافع عن حقه في أن يترعرع على حساب المجتمع المصاب بشل جهازه المناعي وخداعه.

ويساعد في استمرار المأساة القوى المفروض أنها حاملة لواء التطوير والتغيير على اليمين أو علي اليسار والتي تثبت حتى الآن أنها غير قادرة على التحرر فكريا أو سلوكا أو تنويراً، من براثن "الدوجما" التي طالما سحقتهم وسحقت الوطن ومؤسساته معهم! وهم في إفلاس تاريخي ما فتئوا يواجهون "الدوجما" الأحادية المسيطرة بالدوجما الأحادية الخاصة بهم يتمنون لها نفس السيطرة القاهرة، ويضيعون بذلك حقهم المعنوي في المطالبة بالتغيير حقاً، ولسان حالهم الإعتراض على أنهم ليسوا الفئة التي تمسك بالسلطة لتقوم بسحق وإخضاع الشعب بإسم "الدوجما الأحادية" الخاصة بهم وحدهم وهي وحدها الصحيحة! ولم تنطلق أي هذه القوى إلى فلسفات تدعيم آليات الحياة والنمو والتعبير والعدل والاستثمار في البشر قبل "الدوجما" والتنمية البشرية للبشر ككائنات تعددية تفاعلية متحركة تحتاج إلى الأمن والأمان والمساحة والتغذية للنمو والإزدهار والتعلم والتعليم ولميلاد المجتمع المنيع المبدع المطْمَئِن المعلم المتعلم القوي بدلاً من غصب "النظرية" على البشر الضحية من أجل فلاحهم وخلاصهم الذي يغصبه عليهم! هؤلاء العارفون بالصواب والخطأ والحق والباطل بلا شك أو مناقشة وبالنسبة للجميع.

فلنُسَلِّم إذاً من أجل البعد عن اللجج ومن أجل توجيه كل الطاقات إلى التطور، أن كل ما تقدم من كوارث وأخطاء واعتداءات وانحرافات، كان ضرورة مرحلية ولكن الغير مغتفر حقا ألا نسارع بتطهير مجتمعنا من ترسانة التشريعات الماكيافللية الساحبة للتمكين والمانعة للتعددية وللتفاعل والتي تجعل من السلطة المركزية الأحادية بلا فصل حقيقي بين السلطات، كل شئ في هذه المنظومة، والمجتمع بقواعده ومؤسساته ومنها الجامعات طبعاً، وباتجاهاته المتعددة والمختلفة بالطبيعة، لا شئ!!

هل تترعرع جامعاتنا ومؤسساتنا وتزدهر أم تستمر في الاضمحلال والتراجع؟!

بكل بساطة نحتاج إلى الاعتراف البسيط والواضح وبدون إدانة أو هستيريا أن فلسفة الحكم التي سادت بعد 1954 ثم تغولت بعد 1962 وحتى الآن، رغم عمليات التجميل الظاهرية، كانت بكل بساطة استمرار غير مبرر للشرعية الثورية المنتمية لمارس 1954 وامتدت دون مبرر لمدة خمسين عاماً أو يزيد حتى 2004 و 2005! ونحتاج إلى جبال مضادة من الوعي والتنوير والتشريع الجديد للخروج من منزلق هذه التشريعات المنحرفة التي وصفناها. والامتداد الذي نعانيه ويخنق تطور هذا المجتمع بمؤسساته وجامعاته وإنسانه هو حدث متناقض مع نفسه تماماً ونشاهده في استمرار ما يسمى حالة "الطوارئ" أكثر من عشرين عاماً و"الطوارئ" لغوياً ومفاهيمياً وعقلاً ومنطقاً حالة طارئة بالتعريف يستحيل استمرارها أكثر من فترة قصيرة وإلا يثبت أن هناك اختلال أساسي في التركيبة كلها يجب إصلاحه والتصدي له. ولا يمكن ولا يرضى أحد أن نُواجه بأجيال، سيحاسبنا على تدميرها التاريخ، وقد عاشت كل حياتها في الجامعة وفي العمل وفي الجامع وفي البيت في الطفولة وفي الشباب وفي الهِرم في ظل "حالة طوارئ" مزمنة لا تتحرك!.

أمامنا خيارات الأمن بالأجهزة أم الأمن بالعلم والمعرفة والإبداع والمهارات والتفوق؟

تصبح هذه الخيارات أكثر حدة وأكثر أهمية مع السقوط الكبير لنظرية أمن الدولة عن طريق القنوات البوليسية والأجهزة الغير مسئولة أمام أي جهة شعبية. ولا داعي لأن نذكر بكل ألم عند النظرة الواسعة على الوطن بمدى التهديد المتصاعد الذي يواجهه أمن الدولة من الداخل ومن الخارج نتيجة للخيار الخاطئ للقنوات البوليسية وتنويعاتها قبل قنوات الأمن من خلال العلم والمعرفة والإبداع والمهارات والتفوق.

ونظرة إلى السودان وإلى فلسطين وإلى العراق ترينا بكل أسف وأسى انهيار الخطوط الحمراء التقليدية للأمن القومي المصري الواحد بعد الآخر. أفلا نبحث عن طرق أكثر فاعلية؟

نذكر بكل أسف أنه قد اقتضى الاستمرار الغير مشروع "للشرعية الثورية" إنشاء وتطوير الأجهزة "الأمنية" العلنية والسرية الغير ملتزمة أو ملزمة بالشفافية ولا بالمساءلة ولا حتى بالقانون! طالما رضاء الزعيم وثبات النظام مستمر. ووجود أجهزة علنية وسرية ممَكَّنة بلا حدود وبلا أي التزام تجاة القواعد وبلا آليات للشفافية والمساءلة يمثل فيروس آخر من فيروسات النحر في قدرات المبادرة والابداع لدي المجتمع أي مجتمع ومؤسساته حاملة رايات الابداع والاختراق الفكري والعلمي والفني وعلي رأسها الجامعات طبعاً.

وكل ما تقدم كان لا بد أن يصيب الجامعات بالدمار والركود والانهيار العلمي والأخلاقي والسلوكي والشلل ويلاحظ أن الذي أصاب الجامعات في مقتل ليس الغزوات المتكررة الناجحة التي أشرنا إليها، ولكن قُتلت الجامعات عندما سُحبت إلى مصيبة تقنين الشرعية الثورية وتقنين وتبرير أيدولوجية السيطرة الكاملة للدولة المركزية أحادية التوجه وأجهزتها والتي تطورت بالتدريج من عدوان سلطوي علوي مباشر إلى إفرازات مخططة لترسانة ذكية ماكيافيللية** من التشريعات أخذت عنوان تطوير الجامعات ومواكبة النهضة القومية والثورة العلمية، وباطنها تكريس هزيمة الجامعة في "الغزوة" الكبرى وسحب التمكين من الطلبة والطالبات وأعضاء هيئة التدريس زهرة الشباب والعلم في الوطن.

دراسة متعمقة للائحة تنظيم الجامعات حتى الآن تُظهر براعة اللوائح في تحويل أعضاء هيئة التدريس إلى موظفين تتم ترقيتهم في كوادر الجامعة حتى الأستاذية بالأقدمية وليس بالعبقرية مع اشتراط ماكيافيللي آخر لعدد من الأبحاث، لا يوجد ضابط ولا رابط لمستواها ولا تمويل واقعي لها أو حتى بنية قاعدية معقولة من المكتبات والمراجع والمعامل لتدعيمها ولا آليات للتفاعل في المؤتمرات العلمية والدولية ولا مناخ من الحرية الأكاديمية الضرورية، بل تُحول الأبحاث المشروطة باللائحة عملية البحث العلمي إلى مجرد سد خانة يقوم بها موظفون للحصول على الترقية المطلوبة. ومع الوقت كما هو منتظر أصبح لا مانع من أن تكون الأبحاث هزيلة أو منقولة أو مسروقة أو مفبركة، بل أصبح ذلك هو النمط المعتاد وكله يهون في سبيل الترقية الضرورية وفي سبيل طاعة لائحة مفروضة لم يشترك الجامعيون في تطويرها. كما قامت اللائحة الماكيافيللية كنوع من الرشوة للموجودين من أعضاء هيئة التدريس الذين تم تطويعهم وتقزيمهم، بقفل الأبواب عملياً على الكفاءات الخارجية، وهي العناصر في كل بلاد العالم التي تُضيف الدم الجديد إلى المجتمع العلمي والفكري وتُضيف المهارات إلى المجتمع البحثي. وتَحول المجتمع العلمي إلى مجتمع موظفين لدي الدولة مغلق يتوالد ويتجدد داخل نفسه محبوساً "تحت الحماية" من أي مؤثرات خارجية في حلقة مغلقة.

وأصبح المجتمع العلمي الجامعي قابل لأن يعيش أي خرافات وهزاءات يتطلبها الساسة وشئون السياسة من أن الجامعات المصرية تعيش أزهى عصورها وأن هناك نهضة غير مسبوقة في البحث والأبحاث وأن مستوى العلماء والأطباء والفلاسفة المصريين يضاهي ويفوق أعلى المستويات العالمية، وأصبحنا نصدق كلام المجاملات المدمرة الذي يقوله لنا الخواجات بعد أن نغرقهم في احتفالاتنا وعزوماتنا ونبعثهم كالملوك في زيارات، مُبالغ في كرمها بدرجة مَرَضية، للأقصر وأسوان وشرم الشيخ ثم نُظهرهم عند العودة في "حوارات" على التليفزيون يمتدحون طبعاً الكرم المصري الأسطوري والمستوى العلمي الغير مسبوق لكلياتنا الجامعية العظيمة ولأبحاثها التي تغير وجه التاريخ، وهي التي يلقون معظمها في سلة المهملات فور خروجهم من مصر!

مأساة وأكذوبة "تحريم النشاط السياسي" في الجامعة

وعاشت الحياة الطلابية في الجامعة ـ ولا زالت ـ تعيش مأساة فريدة وأكذوبة ضخمة.

بالاضافة إلي دفع الطلاب للثمن الباهظ علمياً وتعليمياً وإنسانياً للترديات التي وصفناها في هذا المقال وما سبقه، وهذه الأكذوبة هي أكذوبة تحريم النشاط السياسي في الجامعة تحريماً ظالماً كاذباً حيث أن هذا التحريم جرى في ظل تسييس كامل وصارخ للجامعة والطلاب والأساتذة. ولسان الحال في هذا الأمر الحزين : "كل سياسة في الجامعة محرمة وممنوعة إلا سياسة الزعيم الأوحد وحزبه الأوحد التي لها بل عليها أن تقتحم الطلاب كل الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، ليس بالتقادح أو بالرأي والرؤيا، ولكن بالقوة وبالرشوة وبالعقاب لمن يجرؤ علي الاختلاف" حيث تم غزو الجامعة سياسياً وبضراوة كما رأينا بواسطة تنظيم السلطة الأوحد ورجال السلطة مع التسييس الكامل لهم بل وتحولت كل المناصب القيادية في الجامعة إلى مناصب سياسية، مع التسييس للمحاضرات والبرامج والأفكار وما يجوز للأستاذ أن يقوله أو لا يقوله في الاقتصاد والسياسة والتاريخ أو حتى في الطب حتى لا يُصنف مع "المخالفين".

ومع هذا الاقتحام الأحادي القاسي ومع نزع مناخ الحوار والتفاعل ووسائل التعبير السلسة الآمنة من خيرة شباب مصر، وفي ظل هذا التسييس الأحادي الصارخ، تحولت زهرة شباب مصر إلى طاقات محرومة من الحوار والتفاعل والتعبير، وليس عجيباً أن تنمو آليات تنشئة أجيال "دوجماتية" تميل للعنف البتري مع "الآخر" غير مدربة وغير قابلة للحوار والتفاعل والتفاهم البناء مع المختلف، والأخطر أن كل هذا يجعلها غير قابلة للبحث العلمي الأمين والحقيقي الذي هو تفاعل مع النظرية وعكسها والافتراض وعكسه بصفة مستمرة. وكل هذا عكس كامل وفرض شلل كامل على وظيفة الجامعة ووظيفة التعليم الجامعي. ولم تجرى في جامعاتنا مناظرات حقيقية حرة في أي موضوع لمدة نصف قرن أو يزيد، ولم تعد مؤتمراتنا العلمية تشمل أو تمارس الحوار العلمي الرفيع الذي يؤدي إلى الاستنارة والاختراق، بل غلب على معظمها التظاهر والتفاخر والإدعاء واللاعلمية الصارخة. وليس عجيبا أن ينشد شبابنا الاشباع الفكري والوجداني والروحي خارج الجامعة وخارج نطاق أساتذتهم الذين تقزم ـ معظمهم ـ إلي موظفين في مرفق من مرافق السلطة يتبعون السلطة، همهم الأول الرضا والترقي والطاعة ثم جمع المال وهو القيمة الوحيدة الباقية والمؤثرة في ظل اضمحلال كل القيم المعنوية والمعرفية والابداعية الكبرى.. ولم لا والمال أصبح القيمة الوحيدة المؤثرة في مجتمع يعاني الافلإس والركود وفقر المبادرة والابتكار والابداع وفقر التقدير للكفاءة والإنجاز، والعمل في كل مجال من طول فرض الستاتيكية الأحادية والركود من أعلى بعضلات السلطة القاهرة المتغولة المزمنة.

أي أن المنهاج الحواري التفاعلي في كل شئون الحياة، وهو المنهاج الضروري للنمو وللتطور وللبحث العلمي أصبح محرماً على علمائنا وطلابنا بحكم القانون واللائحة والتقاليد الجديدة المريضة .. فكيف بالله يتم النمو؟! وكيف بالله نرجو العلم والتعلم والتنوير والبحث العلمي الناتج عن التفاعل الحر الآمن بين المناظير المتضادة؟!

الحديث أليم ذو شجون ولكنه ضروري إذا أردنا أن نتخطى هذه الكبوة المخيفة التي تردينا فيها ونحن نقنع أنفسنا أننا نعيش نهضة غير مسبوقة!.

ولهذا التحليل تتابعات عديدة أخرى وبقية تأتي .. نعرض فيها في الوقت المناسب لجامعة الأزهر التي كانت في نظري تحمل الطاقة الكامنة لتكون من أنصع وأقدر عناصر النهضة المصرية الحديثة في مجال الدين والعلوم والفقه والتفاعل مع الحضارات دون فقد الهوية وكذلك في مجالات العلوم والثقافة الحديثة المعاصرة، لتكون مركز إشعاع وبحث أكاديمي عالمي ينير الطريق إلى الفقه الجديد الذي يستصرخه المسلمون من قياداتهم الفقهية المستنيرة. ولكن دخلت القوانين الماكيافيللية إلى الأزهر ليس بالهجوم المباشر، كما حدث في الجامعة، لكن دخلت تحت ستار التطوير والتحسين والتحديث، بدلاً من "غزوة" التدمير المباشر التي تمت على الجامعات الأخرى، فللأزهر في مصر والعالم الإسلامي كله مكانة لا تحتمل تحطيمه مباشرة بالقوة المباشرة، ولكن تم سحبه التدريجي بالمغريات واللوائح الماكيافيللية الذكية إلى حظيرة السلطة التنفيذية، المهم أن ينتهي الأمر للسلطة التنفيذية الأحادية بأن تحتوي مؤسسة الأزهر وقدراته تحت جناحها وتنفذ عملياً القضاء النهائي على مبدأ الفصل بين السلطات، مع القضاء على إمكانية وجود أي سلطات في الوطن قادرة على التفاعل، لها استقلالها ووجودها الذاتي، ولا يهم أن يتحول الأزهر الذي تسيطر عليه السلطة التنفيذية الأحادية تحت ستار التحديث، إلى جامعة تفقد القدوة والقدرة والريادة في المجال الديني الفقهي والعلمي الحديث معاً. المهم أن يتم احتواء الجميع بأمان تحت مظلة السلطة التنفيذية ولو على حساب العلم والمعرفة والفقه.

أ.د. طارق علي حسن

البريد الالكتروني tali@idsc.net.eg

الموقع على الانترنت tarekalihassan.com

tarekalihassan.org



1) الدوجما : منظومة فكر أحادي ثابت يُرفع بالتقديس المنسوب إلى السماء أو إلى عبقري أرضي معبود أو شبه معبود (ماركس مثلاً) ليصبح غير قابل للحوار أو للتطوير أو للتفاعل مع آخر أو آخرين أو مع الأحداث والوقائع الدامغة. وهذا المنظور الجامد يفترض أوتوماتيكياً وبراحة فكرية وبكسل فكري فريد أن المختلف مسكين على خطأ وقصور في الفهم.

** ماكيافيللي : هو مفكر سياسي إيطالي ولد سنة 1469 ومات سنة 1527 ، كرس جزء من أعماله لنصيحة وإرشاد أميره إلى السبل البارعة للحصول على السلطة المطلقة والحفاظ عليها عن طريق إجهاض مستمر لكافة القوى المناوئة ، وكان هذا متوافقاً مع الفكر المرتبط بالسلطة في هذا العصر وإن كان قد كتب دراسات أخرى أقل وحشية وأكثر حكمة، فقد التصق كتابه البشع "الأمير" باسمه الذي أصبح مثلاً للديكتاتور يحطم بلا حدود أخلاقية أو مبدئية وبلا رحمة كل القوى في طريقه ليحصل علي القوة المطلقة حيث هو مبعوث العناية الإلهية إلي شعبه..

علي هامش تراجع الجامعات المصرية

علي هامش تراجع الجامعات المصرية (7)

(الآذان في مالطة)

شاءت الظروف أن أبحث في بعض أوراقي القديمة فوجدت هذه المقالة منشورة في جريدة الأخبار بتاريخ 14/12/1994. وكانت هذه المقالة الجريئة التي أسوقها بالكامل فيما يلي للأستاذ/ محمد سكران ـ رئيس قسم أصول التربية ـ كلية التربية بالفيوم من الجرأة والعمق بحيث لو كنا في دولة تنشد التقدم والتطور والصلاح التعليمية والتنموي كان لا بد لمثل هذه المقالة أن تهز الوزارة هزاً وأن يرد عليها وزير التعليم العالي ورؤساء الجامعات ردوداً عملية إصلاحية بكل جدية. ولكن الذي حدث مثل ما حدث مع الأفكار والمقالات والكتب والمؤتمرات الكثيرة التي قدمها مخلصون لهذا الوطن على مدى الحقب السابقة، أن هذه الصرحة الهائلة المزلزلة ذهبت أدراجها الرياح.

أين نحن من الفكر والأفكار ومن المفكرين والمخلصين والناقدين ؟

وأي مصير ينتظرنا في عالم متغير يقحمنا اقتحاماً ويدوس علينا كثيراً ونحن لا نستمع إلى أصحاب الرأي والرؤيا وإلى المفكرين المخلصين من أبناء هذا الوطن؟

كنت أتصور أن ما أثاره الدكتور محمد سكران من قضايا خطيرة يتحول إلى محور لحوار داخل وخارج الجامعات في أجهزة الإعلام وعلى صفحات الصحف لا يتوقف، حتى نصل بمجهود تعاوني حواري إلى تشخيص أسباب وعلاج بالملاحظات التي أوردها في المقالة التي نقدمها مرة أخرى الآن بعد أكثر من عشر سنوات على كتابتها.


جريدة الأخبار 14/12/1994

أخبــار

الجامعات يحررها : محمود عارف

صور جامعية (!!)

قـــلاع شــــامخة

بداية، لا بد من التأكيد على ان بالجامعات صوراً ونماذج مشرفة، تكافح من أجل الحفاظ على مكانتها وبقائها، قلعة للعلم، وحصناً للمعرفة، وقدوة طيبة، لهم من السمو النفسي والخلق الرفيع ما يجذب حولهم المريدين والتلاميذ ولولا هذه النماذج لتصدع البنيان وتلاشت الرسالة.

حقيقة ثانية أن الجامعة جزء من المجتمع تتأثر به، وفيه تتفاعل، والمجتمع يعاني من أمراض وسلبيات كثيرة، استطاعت أن تطل برأسها في الجامعة، وبدأنا نسمع عن أمور مزرية، قد يقول قائل أنها حالات فردية ،، ولكن تأثيرها خطير على الجامعة.

والسؤال الأكثر أهمية الآن :

لماذا يحدث في الجامعة ما يحدث من ممارسات وأساليب ملتوية ؟

في تصوري أن من أسباب اهتزاز الصورة هو :

· ضعف الانتماء والولاء للجامعة، وأصبح الانتماء لأمور ضيقة تخصصية أو أيديولوجية أو لمصالح ومنافع أو لعلاقات القرابة.

· فقدان روح الزمالة، فسادت الوقيعة وكثر التملق والنفاق.

· فقدان القدوة والمثال، لدرجة أن ما يمكن اعتبارهم كباراً يتحولون في بعض الأحيان إلى آداة للتسلط والإرهاب والابتزاز.

· فقدان العناصر البحثية المتميزة، وأصبحت الترقيات العلمية إلى وظائف الأساتذة والأساتذة المساعدين، في كثير منها تتم دون استحقاق علمي رفيع، فظهرت السرقات العلمية .. إلخ.

· التطبيق بكل دقة لمبدأ أهل الثقة على حساب أهل الخبرة. فتوارت الكفاءات وتلاشت الموضوعية في اختيار القيادات، وتعاظم تأثير المصالح والعلاقات الشخصية على الاختيار.

· فقدان الممارسة الديمقراطية في اتخاذ القرارات الجامعية وممارسة الاختصاصات بأساليب غير موضوعية، واصبحت أبواب الجامعة مفتوحة أمام ذوي القدرات المتواضعة، الذين يمارسون أبشع الأساليب بأخس الطرق لتحقيق مآربهم وبالأساليب الملتوية ـ التي يجيدونها ـ يشق البعض طريقه إلى المناصب، فيصيب أهل الخبرة، والخلق القويم بالإحباط، والإحساس بانقلاب المعايير.

وعلاج هذه الأمراض، يأتي باقتلاع جذور الشر والفساد، إذا صح العزم وصدقت النوايا.

د. محمد سكران

رئيس قسم أصول التربية

كلية التربية بالفيوم

د. طارق علي حسن

tali@idsc.net.eg

Tuesday, October 31, 2006

على هامش تراجع الجامعات المصرية (1)

من مآسينا منذ النصف الثاني من القرن العشرين أننا نتكلم كثيراً وأحياناً بأطيب النوايا عن أماني وأحلام غير قابلة للتحقيق. وهذه الأماني والأحلام غير قابلة للتحقيق لأنه قد سُحبت منا آليات تحقيق هذه الأماني وسكتنا عن هذه المأساة أو قصرنا عن قدرات حماية آليات التطور والتغيير والازدهار ولا نريد أن نعترف بذلك.

من ذلك أننا نتكلم بلا انقطاع عن تحقيق نهضة تعليمية وعلمية غير مسبوقة في جامعاتنا وعن أحلام اختراق مراكز أبحاثنا في الجامعات أو في المراكز المستقلة لآفاق البحث الإبداعي الذي يضيف إلى بوتقة الوعي العالمي في كل المجالات. كما نسرق بسذاجة مدهشة وبلا مشروعية شرف حصول أبناء مصر على جائزة نوبل في الكيمياء أو في تنظيم استعمالات الطاقة الذرية في العالم وكأن نسيجنا الاجتماعي أو التعليمي أو السياسي هو المسئول عن هذا الإنجاز العظيم وهم لم يحققوا إنجازاتهم القمية إلا بعد أن هجرونا وابتعدوا عنا وعن جامعاتنا ومؤسساتنا ذات المناخ الخانق لكل إبداع والتشريعات المضادة للمبادرة التي تحاصر الإنسان المصري في كل زاوية من زوايا الحياة والنماء.

وقد أصبحنا أبرع الناس في تقديم الأمنية مع سحب آليات حدوثها وإحداثها في نفس الوقت ، وامتزجت مع هذه البراعة ، البراعة والقدرة الفذة على إجهاض أي تحرك وأي طاقة فعالة نحو تحرك حقيقي في أي مجال من المجالات.

ولا بد أن نذكر ونحن بصدد هذه الحلقة الجهنمية المحبطة لأي تغيير أو تقدم حقيقي أن نرجع إلى الجذور حيث كان القرار منذ منتصف الخمسينات ، بالتحديد منذ مارس 1954 هو سحب الصلاحيات من كافة أجهزة ومؤسسات المجتمع من أجل اختزال الوطن كله في شخص وإرادة شخص وهو الزعيم القائد الواحد الأوحد الملهم وسموا هذا التردي المأساوي أننا نطور التشريعات من أجل توليد جمهورية رئاسية على نمط الديمقراطية الأمريكية !!! ولم تكن هذه نكتة ولكن خطط مأساوية واستراتيجيات بالغة البراعة طويلة الأمد نفذها بعض من جهابذة القانون وعلى رأسهم الجهبذ الأكبر الدكتور عبد الرازق السنهوري (وقد ندم على دوره في هذا الأمر فيما بعد) ولكن بعد فوات الأوان ، وحوصر المجتمع المصري ولا يزال محاصراً بترسانة ضخمة من القوانين والتشريعات تسحب الصلاحيات بذكاء شديد من كافة القوى الاجتماعية والأصلية والقاعدية، وفي النهاية تسحب التمكين من الشعب بأكمله.

ولكي تصل السخرية إلى قمتها تميز هذا العصر المأساوي بترديد مقولة أن الشعب مصدر السلطات تكرر آلاف المرات في كل مكان ومجال حتى في الدستور الذي يكرس الالتفاف على فلسفة الفصل بين السلطات الضرورية وآلياتها والذي يكرس سحب التمكين كاملاً من الشعب ومؤسساته بطرق بالغة الذكاء ظاهرها يختلف عن باطنها وادعاءاتها الوردية تهزمها تطبيقاتها المدمرة لإمكانية أي تحرك مؤثر من القواعد. وكل ذلك من أجل سيطرة مركزية كاملة لسلطة واحدة أحادية تمثل في آن واحد خليط من القوات المسلحة والسلطات التشريعية والقضائية منصهرة في سلطة تنفيذية جديدة لها كل السلطات والصلاحيات بلا رقيب أو حسيب أو آليات للشفافية أو المساءلة أو المراجعة.

والعجب أن الأغلبية بما فيها المثقفين وكبار رجال القانون ومعظم القوى السياسية والتعليمية والاجتماعية وقعوا في هذا الفخ المنصوب الذي جعل المجتمع المصاب بأسره يتحرك في قمقم حتى يتيح الوعي الجديد آليات جديدة للخروج من قمقم اللاحركة بعد أن أصبح المجتمع العلمي والمجتمع عامة بفضل ترسانة التشريعات الماكيافيللية غير قابل للتطور أو النمو بإرادة قاعدية طبيعية. والعجيب أننا أصبحنا من داخل هذا القمقم نتغنى بالديمقراطية والحرية والنهضة ومقولات الشعب مصدر السلطات ونتغنى بعدالة القضاء الشامخ وبحرية الإعلام المعجزة وتعدده وبروعة التحول الديمقراطي والتقدم الغير مسبوق وبكل الأماني الجميلة التي أصبحت مستحيلة التحقيق لكونها كلها تدور في قمقم يصاحبه فقدان آليات التطور، وكي لا تتوه الأمور سنركز في التطبيق بعد هذه المقدمة المقلقة على الجامعة وإن كانت نفس المأساة فعلت فعلها في الإعلام والسلطات القضائية والتشريعية والنقابات والاتحادات والجمعيات الأهلية وكافة مستويات المجتمع المدني.

ففي الجامعة حيث طُبقت فلسفة سحب التمكين من أجل سيادة الزعيم الوحيد الأوحد والسلطة المركزية الأحادية ، نُفذت لوائح وتشريعات جامعية لا يمكن لأي عاقل أن يدرسها ملياً دون أن يرى فيها معادلات لتحطيم الجامعة والبحث الإبداعي بغير رجعة.

وقد تم سحب استقلال الجامعات بعدة إجراءات بدءاً باقتحام وحشي جريء حيث تم تنفيذاً لما تقدم من استراتيجية سحب التمكين، تعيين شخص غير مؤهل وزيراً للتربية والتعليم ورئيساً للمجلس الأعلى للجامعات .

وأصبحت تعيينات القيادات الجامعية تعيينات سياسية علوية بدون أن تنتمي هذه القيادات إلى إرادة القواعد ولا إلى ديناميات القواعد أو الكفاءة بل على العكس تنتمي إلى فئة أقل كفاءة مؤهلاتها أنها سعت لتدور حول السلطات الجديدة وتثبت أنها من أهل الثقة. ويعلم كل علماء الاجتماع كيفية الحصول عل الثقة في هذه الظروف! وسعت مجموعات أهل الثقة هذه لتعويض قصورها الكفائي والعلمي والذهني عن طريق تقديم أنفسهم كخدام للسلطة الجديدة وكمخبرين على زملائهم وزميلاتهن وعلى الطلبة، وبطريقة غير مفهومة توقف التعيين في الجامعة مطلقاً إلا بموافقة جهاز غريب عن الجامعة ليس للجامعة سيطرة عليه ولا حق المشاركة في إدارته ولا قنوات لمحاسبته أو مساءلته ألا وهو "الأمن".

وبعد هذا التسييس المطلق للجامعات وإخضاعها للسلطة التنفيذية المختزلة في النهاية إلى شخص الزعيم الوحيد الأوحد وحزب الولاء المطلق للزعيم الوحيد الأوحد، قامت السلطة بتنفيذ قرار مدمر آخر آلا وهو منع السياسة في الجامعة وسحب فعالية اتحادات الطلاب وأعضاء هيئة التدريس بتشريعات من نفس النوع الماكيافيللي. وكان ذلك قرار متناقض مع نفسه فلم تتورع السلطة وهي تحرم زهرة طلاب مصر وشبابها من ممارسة السياسة والتعددية والتناظر والاختلاف الطبيعي داخل الجامعة بطريقة صحية تشمل المناظرة والحوار والمنطق، وقدح الرأي بالرأي والفكر بالفكر، بل التهمت السلطة الجامعة، أساتذتها وطلابها، سياسياً التهاماً وجعلت الجامعة منبراً وتابعاً ذليلاً مرغماً لآرائها وأفكارها الأحادية ونشطت السلطة الجديدة المانعة للحوار والتناظر بالجامعة تفرض على الجميع فكراً أحادياً علوياً مفروضاً بلا حق في مجرد المناقشة، حيث اقترن القرار الغاشم بمنع السياسة من الجامعة بتسييس فاضح وكامل للجامعة كمنبر للزعيم الوحيد الأوحد وللتنظيم السياسي الوحيد الأوحد باختلاف أسمائه في هذه الحقبات المأساوية. هذه الآلية على فكرة هي بذرة تكوين وتنشئة "الإرهابي" والعقلية الإرهابية ونمط السلوك الإرهابي.

لقد تكلمنا كثيراً عن عناصر العلاقة الصحية بين الجامعة والسلطة التنفيذية وهذه العلاقة يجب أن تشمل الاحترام المتبادل. وتشمل بالطبيعة احترام العلماء والمفكرين لمقتضيات الاستقرار المعقولة بناء على دوافع داخلية ومسئولة وليس بناء على أي ضغط خارجي أياً كان وتشمل من جهة أخرى تبجيل السلطة التنفيذية للحرية الأكاديمية مصونة لا تُمس (هذا إن كانت تمثل مصالح الشعب حقاً).

هذا وتبجيل السلطة التنفيذية للحرية الأكاديمية مصونة لا تُمس لها الحق في الاختلاف، ضرورة لا فرار منها ولا تتطور المجتمعات إلا عند نضوج السلطة التنفيذية لتفهم هذا الأمر، حيث الاختراع والاختراق والإبداع مفتاحه الحق في الاختلاف والحق في الإبداع والحق في الاختراق العلمي والفكري والسياسي والفقهي بطمأنينة كاملة. وهذا هو الخط الطبيعي لسلطة تنفيذية تمثل مصالح الشعب لأمد طويل حقاً حيث أنه وبالذات في العصر الحديث، الإبداع والابتكار والاختراق العلمي والفني وحرية التطبيق هم مفاتيح الشعب في الحياة وفي الوجود تحت الشمس وأمله الوحيد في تخليق قيم مضافة مطلوبة من الآخرين أي القدرة على "التصدير" لوجود مُنتَج مبدع يضيف إلى ما هو موجود أو يضاهيه على الأقل. وهذا هو الطريق للتقدم الاقتصادي المنشود ولإمكانية وجود مكان لهذا الشعب، المحررة إمكاناته الإبداعية تحت الشمس، في العالم الحديث المتحدي الذي تتوالى فيه الاختراعات والإبداعات العلمية والفنية والمفاهيمية بلا توقف.

أما حين تختار السلطة التنفيذية السيطرة والثبات والتمكين فوق كل شيء فهي تفرض الركود والجفاف وتدني المستوى على عملية التعليم العلمي والبحث العلمي والفكري والفني وهو الذي نراه فعلاً ولا نريد أن نعترف به ويراه الجميع من الخارج ويقرع أبوابنا قرعاً ولكننا لا نعترف بل نتهم الناقدين المخلصين بالإغراض والإجحاف والنظرة السوداوية.

ونكرر أن السلطة التي تختار السيطرة والثبات عن طريق سحب التمكين قبل أي اعتبارات أخرى هي سلطة تطعن شعبها في الصميم حيث تسحب إمكانياته الإبداعية والابتكارية وتتركه تائهاً بلا إمكانات أو دفاعات في عالمنا الحديث، حيث القدرة على الإبداع والابتكار والاختراق العلمي والتطبيقي ضرورة للحياة وللتواجد تحت الشمس بين الأمم القوية بإبداعاتها.

إذاً لا نتعجب عندما تفشل مصر في أن تظهر جامعة واحدة من جامعاتها من بين الجامعات المميزة في العالم بأسره.

وإذا أردنا أن نكون إيجابيين حقاً وإذا قر قرارنا على أن نحقق الكلام الجميل الذي نسمعه في كل مكان وبالأخص الكلام الذي نسمعه في الحزب الوطني فإنه يجب مواجهة ترسانة التشريعات التي عملت على سحب التمكين من الجامعة وباقي المؤسسات الحيوية في المجتمع.

وأول هذه الخطوات في الجامعة هو أن يصعد رؤساء الجامعات والقيادات من القواعد وألا تكون هذه المناصب سياسية وأن يتم انتخاب القيادات من القواعد التي تمتد عرضاً وطولاً ومع التطوير تشمل الطلاب في السنوات الوسطى والنهائية حتى المدرسين والأساتذة ، كما يتم وبسرعة إلغاء الدور الغير شفاف والغير مطلوب "للأمن" تجاه أعضاء هيئة التدريس وتجاه الطلبة ودور الحرس الجامعي الذي خرج تماماً عن ما هو مطلوب للحفاظ على الجامعة وأساتذتها وطلابها. وجعل همه إجهاض أية مبادرات طبيعية وتحقيق الثبات والاستقرار بمعادلة هي الطريق إلى التدهور والتعصب وضياع الاستقرار.

وبطبيعة الحال يكون للطلبة تمثيلهم في اتحاداتهم بطريقة مشروعة لا تدخل فيها. ونحن محرومون بصفة مزمنة من معرفة الاتجاهات الحقيقية والآراء الحقيقية للقواعد وللطلاب، حيث أن التدخل الأمنى المستمر والشطب الغير مفهوم لقوائم الطلاب يولد حالة رد فعلية يجعل جمهرة الطلاب تتعاطف مع اتجاهات وتيارات قد لا تكون مقتنعة بها في ظل الديناميات الطبيعية وفي ظل إمكانات التناظر والحوار المطمئن.

عدم إتاحة حرية التكوين والتمثيل للطلبة وحرمانهم من المناظرات الحرة الراقية ومن المبادرات القاعدية الطبيعية يضعف ويضيع شبابنا ويدفعه إلى ظلام وعدم وعي عن حقيقة المجتمع المصري ومشاعره ومشاكله الحقيقية الحقيقية، وهذا على عكس حريات وصلاحيات مادية غير مسبوقة يقدمها النظام لمراكز قوى فاقدة لحب واقتناع القواعد بها وفاقدة للانتماء الاجتماعي الحقيقي وهي فئة مهددة للاستقرار حيث أصبحت تتمتع بسلطة غير نابعة بطريقة طبيعية من القواعد وبصلاحيات وميزات لا رقابة قاعدية عليها ولا مساءلة أو شفافية مفروضة عليها. ومن القواعد الاجتماعية الإساسية أن التميز الغير مشروع والسلطة بلا كفاءة أو مساءلة تكون فئة تضاد التغيير وتضاد الاصلاحات الحقيقية المطلوبة ويحتاج الأمر إلى بحث عميق في كيفية تحييد هذه القوى التي نمت في الجامعة وفي غيرها من مؤسسات المجتمع بطريقة سرطانية.

وغنيٌ عن القول أن ننبه إلى هذه القفزة في الحياة الجامعية والتعليمية في مصر لو نجحنا في اتخاذها ستشد معها مناخاً أكثر فهماً للتعدد وأكثر فهماً لقضية احترام الاختلاف والتناظر معه بالحجة وبالمنطق وليس بالعنف والرفض والتجريم والبتر وستحمل معها إذابة طبيعية للعنف والتطرف بكل أنواعه.

وإني أتهم الفهم الأمني لعملية ترويض الجامعة هيئة تدريس وطلاب وإحكام السيطرة عليها كطريق مختار للأمن والاستقرار، بالمسئولية الأولى عن الفقر الفكري والثقافي والفني وغياب التفاعل الحواري الصحي، الذي هو، على عكس مطالب الأمن الحقيقي، مولد للتعصب الديني والتزمت والعنف والسلوك الإنفجاري والتطرف يميناً أو يساراً مع الفقر الفكري والإبداعي.

وليس عجيباً أن الشباب الذين مورست عليهم ممارسات العنف والرفض والتجريم والبتر بلا عدل أو شفافية ينشأوا غير مؤهلين لمواجهة الآخر والمختلف إلا بنفس هذه الممارسات. وليس عجيباً أيضاً أن لائحة الجامعات التي حولت أعضاء هيئة التدريس إلى مجرد موظفين لا يمكن تعيينهم إلا بموافقة جهات أمنية غامضة غير قابلة للمساءلة وغير مفروض عليها الشفافية، قزمت أعضاء هيئة التدريس وجعلتهم فاقدي المصداقية لدى المجتمع ولدى طلابهم، ولدى سلطات الدولة التي يتبعونها. كما تابعت السلطة خطوة تحويل هيئة التدريس إلى موظفين تابعين مؤهلين للترقية أتوماتيكياً بالأقدمية "محميين" بتشريعات إضافية تكاد تمنع تعيين الكفاءات من الخارج. وتغطية لهذا التردي المهول الذي واكب تحويل أعضاء هيئة التدريس إلى مجرد موظفين يترقون بالأقدمية ومحميين من التقادح مع أي كفاءات خارجية، تم اشتراط تقديم عدد معين من الأبحاث عند الترقية، وما هي هذه الأبحاث التي ننتظرها من موظفين ينتظرون قبل تعيينهم أولاً قرارات جهات أمنية غير شفافة، وترأسهم قيادات سياسية عينت من أعلى في مواقعها بناء على الولاء والثقة وليس على الكفاءة أساساً ؟

وليس عجيباً أن لائحة تنظيم الجامعات والترقية بالأقدمية والأبحاث نتج عنها ارتفاع هائل في عدد الأبحاث مع انخفاض هائل في قيمة هذه الأبحاث! حتى أن البحث العلمي في الجامعات أصبح معظمه عبئاً ثقيلاً على طلبة وطالبات الدراسات العليا وعلى أعضاء هيئة التدريس حيث يعلم الجميع أنها عملية سد خانات من أجل الترقية لمجموعة موظفين يرأسهم ربيب للنظام السياسي وكل ما يصرف على هذه الأبحاث ويضيع عليها من وقت ينتهي في الأغلب الأعم إلى لا شيء. ولا يؤدي إلى تغير في الوعي العلمي العالمي أو الإنساني ولا يؤدي إلى تغير في الممارسات العلمية أو العملية.

أما عن الأزهر فقد كان مرشحاً لأن يكون منارة التطور والنهضة الحديثة لمصر وللعالم الإسلامي في مجالات الدين والفقه والعلوم والمعارف والفنون، وتراجع مع باقي الجامعات والمؤسسات في ظل تشريعات ماكيافيللية ظاهرها التطوير وباطنها سحب التمكين من أجل اختزال الوطن في شخص الزعيم الوحيد الأوحد وحزبه الوحيد الأوحد ذو الفكر الثابت الصحيح الوحيد الأوحد ولذلك قصة أخرى في مجال آخر.

د. طارق علي حسن

البريد الالكتروني : tali@idsc.net.eg

About Me

My photo
doctor, teacher at university and musician, composer dramatist committed all my life to health and resolution through expression/communication and the marriage of art and science in the service of that miracle LIFE and that even rarer miracle the conscious HUMAN BEING. DO VISIT MY WEBSITE: www.tarekalihassan.org