تتداعى إلى الذاكرة في هذه الأيام السوداء من أبريل 2003 أيام سوداء مثلها أو أمر في يونيو 1967 وينبثق في الوعي بالنسبة لجيل مثل جيلي عاش الإنكسار تلو الإنكسار وأغُرق في الأكاذيب بلا حدود وبلا خجل، أن الديكتاتورية وحكم الفرد بكل تنويعاته هو في الواقع تعجيز وشل لقدرات الشعوب والجيوش معاً حتى وإن كانت هذه الديكتاتوريات ديكتاتوريات عسكرية تحظى الجيوش فيها بنصيب الأسد من الدخل القومي وبكل أنواع التميز التي تجعل المواطن العادي مواطن من الدرجة الثانية بالنسبة لأفرادها المحظوظين ، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الجيوش بالتالي هي جيوش جبارة تبز وتتفوق على كل ما عداها من جيوش ، ولكن الأداء والتاريخ أثبت بما لا يدع مجال للشك أن الجيوش التي تتحور وظيفتها لتصبح آداه من أدوات الحكم وآداه من أدوات السلطة تفقد بطرقة تكاد تكون غير محسوسة قدراتها القتالية.
وقد غذونا حتى الثمالة بالجيش العراقي الجرار وبقدراته الفذة وبالمستويات الخطيرة من فرقه ارتفاعاً من الجيش العادي إلى ما سمي الحرس الجمهوري ثم الحرس الجمهوري الخاص والفرق الفدائية الخاصة حتى وكأنه انطلت هذه التغذية الكاذبة على الغرب المتحفز للعدوان على العالم العربي والإسلامي وعلى العراق أو لعله ساير هذه الدعايات الكاذبة من أجل أن يضخم في انتصاراته وأن يبرر لنفسه ولأجهزته الجهنمية العدوان الوحشي بآلات الدمار الشامل على الضحية المختارة من عالم العرب والمسلمين المبتلى بتنويعات من الحكومات الأتوقراطية وتنويعات حكم الفرد
وتناسينا مرة أخرى تفاؤلاً وحباً في العراق الشقيق أن الجيوش في هذه النظم والتراكيب المأساوية بأسها على الداخل وأن أجهزة الأمن والمخابرات والبحث فيها موجهه إلى الداخل وأنها إن كانت تعرف كل شئ عن المواطن الغلبان فهي لا تعرف أي شئ مفيد عن العدو الأمريكي أو الإسرائيلي.
وقد بلغ ما تعرض له جيلي وأجيال بعدي من غسيل مخ أننا تابعنا الأحداث السوداء في مارس وأبريل2003 غير مصدقين لما يحدث وكلنا متناسين ما تفعله الديكتاتورية بالشعوب والجيوش ولم نكن نصدق ما يجري وكنا نقول في حكمة العارف ببواطن الأمور أن كل ما يحدث هو خدعة من الجيش العراقي الجبار الذي طالما أخبرونا عنه ، وأنه يستدرج القوات الأمريكية والبريطانية الغازية إلى بغداد ليفاجئها بقواته الجبارة ويقضي عليها ويمزقها شر تمزيق بالأجهزة والأسلحة والأدوات المناسبة التي حضر نفسه لها عبر ما يزيد عن ثلاثة عشر عاماً من الحصار والعدوان والتربص المعلن و المستتر.
أين كانت الأجهزة والاستخبارات والمخططين والعسكرين من هذا التخطيط العدواني الرهيب الذي كان من الواضح لأي ساذج أن أمريكا تجهزه للعراق.
وتتداعى إلى الذاكرة وأنا أستمع إلى وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف الذي كسبنا بقدر من خفة الدم و الأكاذيب التي يبلغ من عظمتها ان تكون مسلية جدا مضحكة مبكية في آن واحد. ورغم البعد الزمني و الألم العميق لهذه االأحداث المأساوية الظالمة. ألاحظ أن الذي يتداعى إلي الوعي الحزين هو التطابق شبه التام مع البلاغات العسكرية المتتالية لهذه الأيام المشئومة في يونيو 1967 ربما يقرأها شخص بتكنيك يختلف عن الصحاف خفيف الدم في كذبه بطريقة أحمد سعيد المتعاليه و الواثقة المشهورة وفيها هذه التتابعات المدهشة " أسقطنا كذا و كذا طائرة من طائرات العدو.... معارك شرسة تدور في المكان كذا ثم بدون أي معلومات أخرى مقاومة ضارية تبديها قواتنا الباسلة في مكان آخر لم يكن لدينا أي أخبار أنه تحت الهجوم..... وهكذا بينما يصعد الاحباط و اليأس الأسود في النفوس المعذبة بالكذب قواتنا الباسلة تخوض معارك ضارية في رفح ثم في العريش ثم في بور توفيق
لا يوجد شيء يمكن ان يعوضنا نحن شباب مصر المخلصين آنذاك من عذاب الأكاذيب الصارخة و لا من آثار إختزال الوطن في شخص الزعيم البطلالذي يصنع الحقيقه كيفما شاء لنصدم المرة تلو المة بالهوة السحيقة بين الحقائق و الادعاء.
تضخيم هائل لخسائر العدو مع إنكار كامل لتأثير ضربات العدو على القوات المدافعة وتستمر هذه الحلقة المعتادة من البلاغات الوهمية بينما ينبثق الكابوس بالتدريج على النفس من أن هناك شئ بشع يحدث وأن هزيمة مروعة في طور التكوين، دون أن يتاح لنا كمواطنين تعتبرهم السلطة المركزية عيال دون المسئولية أن نعرف ماذا يحدث بالضبط ولو لنجهز أنفسنا في صورة مجموعة لحفظ الأمن والنظام ولضمان سلامة المرافق عند حدوث الانهيار المحتوم القادم.
تختنق الكلمات في نقد أداء وأساليب هذه الحكومات الأتوقراطية التي أوردت الحلم العربي والإسلامي موارد الكارثة والهلاك عندما نرى على الوجه الآخر كم الأكاذيب والادعاءات الوهمية التي تردى فيها الإعلام الغربي وبصفة خاصة الإعلام الأمريكي والبريطاني ، وكأن السلطات في كل مكان قد تعلمت مننا أن تعتبر المواطن مجرد تابع يفعل باسمه كل شئ وأي شئ حتى ولو كان مضاداً تماماً لرغباته العارمة كما شاهدنا بلير وبيرلسكوني واثنار في تحد كامل لما بدا أنه الإرادة الشعبية كما عبر عنها الأسبان والطليان والإنجليز في شوارع عواصمهم الرئيسية.
نعيش في الأكاذيب والأوهام والتكهنات ولا نفيق منها إلا بواقع مر ثم واقع أكثر مرارة يفرض نفسه علينا.
التكهنات كثيرة في كيف سقطت بغداد هذا السقوط المروع وكعادتنا نبحث عن حل مستسهل يساعدنا على الهروب من مواجهة الواقع المرير ولكنني أكرر أن الهزيمة ما هي إلا انعكاس لهزيمة مسبقة للشعب وللجيش ولكافة الأجهزة بواسطة الديكتاتورية وحكم الفرد الذي يختزل الوطن و الشعب باسم أهداف "نبيلة" و يعمل علي تصغير و تجهيل المواطن.
والدرس المستفاد في 2003 كما كان الدرس في 1967 هو أن الديكتاتورية وحكم الفرد يهزمان الشعب ومؤسساته والجيش ومؤسساته قبل أن يهزمهم العدو الخارجي.
فهل نتعلم من 2003 وهل تعلمنا واعتبرنا من 1967 وهل يتسع خيالنا لنرى التوازن والتطابق شبه الكامل بين الحدثين المروعين الذين سحبا ويسحبان من جيلي وأجيال بعدهم الأحلام والتمنيات ؟
بلغنا من بعض الجهات أن الجيش في العراق كما كان في مصر 1967 كان مشلولاً ومفتقد الأوامر ووجد أنه غير قادر على التصرف التلقائي وهذا هو النتاج الطبيعي لتحول الجيش إلى مصدر للسلطات حيث يخشى الحاكم بالطبيعة من إطلاق سراح الوحدات العسكرية في حرية الحركة وفي الدخول إلى العاصمة خوفاً من أن تمارس صلاحيتها الجديدة المعتادة وتقفز على مقعد السلطة.
أي إذا جعل النظام القوات المسلحة و الأجهزة هي المصدر الحقيقي للسلطات فلا بد من آليات جهنمية لتكبيل و تكميم و للتحكم في الشعب و للسيطرة و الحفاظ علي الشعب مجهلا مستأنسا إلي الأبد من أجل الحفاظ علي سلطة هذه الأجهزة الجبارة و الخطرة مالكى القوة الوحيدة في البنيان الإجتماعي. و التاريخ الطبيعي لهذه النظم يشمل مع الوقت تحالف السلطة مع المال –مهما تشدقت هذه النظم بالاشتراكية و العدالة الاجتماعية-كما يشمل عدوان حقيقي ظاهر و مستتر علي التعليم النمائي و الثقافة و تدعيم مباشر و غير مباشر للتعصب الفكري و الديني الذي هو الوجه الآخر لأحادية الرؤيا و ضحالة التعليم و الثقافة التي تمارسها السلطة و أجهزتها و تفرضها بكل ما تملك من قوة.
و الخلاصة انه لا بديل عن تحرير الارادة الشعبية و تمكين الشعب عن طريق إعادة ميلاد مجتمع مدني ينبع من القاعدة و دستور ينبع من قواعد وقيادات غير سلطوية و لكن فكرية و قانونية، و لا بديل عن دستور يخضع جميع الأجهزة لآليات الشفافية و المساءلة و التوازن الضروري بين السلطات.و التغاضي المزمن و التحايل المزمن علي هذه البديهيات في الوطن العربي يهيئنا للمزيد من الترديات و الهزائم و الفرص الضائعة. و كل ما يحدث متجاهلا لما أسلفنا من بديهيات هو كالزبد سينتهي حتما بعد أن يلعب بكل أسف دوره المطلوب في تعطيل التطور و اثارة الضباب علي مسالكه. و يراعي انه ليست كل الهزائم عسكرية في حروب بين الجيوش و لكن هناك هزائم في التعليم و هزائم في البحث العلمي و هزائم في الاقتصاد و هزائم في الثقافة هزائم في القانون و التشريع و هزائم في الاعلام المزور للوعي و نري هذه الهزائم أخطر و أعمق أثرا من الهزائم العسكرية حتي لو أمعنا في الانكار و التمثيل كعادتنا.
طارق علي حسن
No comments:
Post a Comment