عن الأستاذ/ محمد حسنين هيكل
أجدها مناسبة لتقديم الشكر والتقدير للأستاذ هيكل على تقديمه لكتبه ووثائقه ومستنداته إلى نقابة الصحفيين كنواة لمؤسسة تجعل من كل هذه الوثائق والمستندات والمراجع مكتبة فريدة في متناول الدارسين في مصر ومن كل مكان.
وأقدر في الأستاذ هيكل ذكائه الحاد ولكن أقدر أكثر نظرته الكونية الشاملة للتاريخ، وهي نظرة مطلوبة وإن كانت للأسف شديدة الندرة، كما أنه بحكم مراكزه وقربه من مركز الأحداث ومراكز صنع القرار في فترة من أخطر الفترات التي مرت بها مصر يحوز ويصل إلى وثائق ومراجع حجبت عن الشعب المصري وعن الدراس المصري العربي فترة سيطرة الشمولية على العالم العربي بعقليتها المانعة لتداول المعرفة ولانتقال المعلومات و للوعي بأهمية الأمانة العلمية و التاريخية.
ويشوب هذا الإعجاب والتقدير للأستاذ هيكل، افتقادي فيما يقدمه من كتابات رائعة، لإختراق العالم الذي يضع البحث عن الحقيقة فوق كل شيء. وأجد بصفة متكررة أن علمه وعطائه الغزير يسقط بصفة مزمنة في فخ التبرير لعبد الناصر وعهده، وما صاحب هذا العهد من أخطاء وخطايا وانكسارات لا تلقى في مصر التشخيص العميق المنتظر والمطلوب رغم أن ما تورط فيه هذا العهد من أخطاء أدي إلي كوارث كانت قمتها المنطقية انهيار 1967 العسكري والسياسي والفكري والقيمي، ولا عجب فقد كان الأستاذ هيكل شريكاً أساسياً في هذا العهد ومبرراً ومفلسفاً له بنجاحاته الكبيرة وبثقافاته الكبيرة أيضاً وهو شريك في الإنجازات مثلما هو شريك في الترديات و النكسات.
وهذه المنظور التبريري المزمن والذي أجده بصفة مستمرة كخلفية دائمة في كتابات الأستاذ هيكل و أحاديثه الطلية الشيقة، يمثل نقاط لا رؤيا مزمنة (Blind Spots) تسحب منه صفة العالم المخترق وصفة عالم التاريخ التي هو أهل لها إن اراد وهي صفات يستحقها بذكائه الفريد وبحوزته لمستندات التاريخ المخفية أو السرية في مصر أو في دول الهيمنة، وتتركه هذه الحالة التبريرية بكل أسف في خانة الكاتب السياسي والصحفي بالغ التشويق والإثارة بديع الأسلوب منشغلا دائما بالتبرير و الدفاع عن عبد الناصرالذي لا يخطئ.
وسأكون أسعد الناس إذا استيقظت يوماً لأجد محمد حسنين هيكل اخترق حاجز التبرير إلى رحابة النقد العلمي العميق والجاد لمرحلة شارك في تكوينها وأحداثها، وهو مطلب لا شك شديد الصعوبة ويكاد يكون مضاد للطبيعة الإنسانية، ولكن أملي يستمر في أن الأستاذ هيكل بإنجازاته الكبرى قد يخترق هذا الحاجزونجده عالماً أكبر من الانحياز قادراً على انتقاد موضوعي وتحليل نقدي لجمال عبد الناصر وللفترة الناصرية.
ونفس هذا الحاجز المخل نجده يفرض الشلل على الفكر في مجالات اليسار المصري التقدمي والأحزاب الشيوعية المصرية وعلى القيادات الفكرية والسياسية للتيارات التقدمية ويشمل السقوط في فخ العبادة والعشق "للزعيم المحرر المنتظر باعث النهضة" وهو عشق بدأ الروس يشفون أنفسهم منه فيما يختص بستالين البطل نصف الإله، وهو أيضاً عشق شفي منه الألمان إلى حد كبير فيما يختص بهتلر البطل المعبود. وحتى الفرنسيون بدأوا في رحلة الشفاء فيما يختص بعشق نابليون البطل المبعود، وحتى الانجليز مؤخراً بدءوا وبكثير من الصعوبة رحلة الشفاء من عشق وعبادة تشرشل البطل المعبود.
والحقيقية الحيوية أن وعي الشعوب لا ينضج ولا يتحرك حتى يستوعب التاريخ بحيادية تحليلية ناقدة، وهو ما لا يتم إلا إذا نجح المجتمع بقيادة مفكريه و مؤرخيه في أن يتخطى حالة التجمد في عبادة وعشق البطل المعبود. وهو ما لم نفعله حتى الآن في مصر والدول العربية، وكان يجدر أن يساعدنا عليه أمثال الأستاذ هيكل والأحزاب التقدمية المؤمنة بالشعوب وحق الشعوب في الحركة والتقدم والمفترض أنهم حاملي لواء النهضة الحديثة ، وحق الشعوب في الحرية والتقدم والانطلاق.
وفي رأيي أن فشل التقدميين وفشل الليبراليين وحاملي لواء الحداثة والتطور في مصر في التحليل النقدي لتاريخنا لمعاصر ، وفي تحليل الفترة الناصرية والحكم العسكري بعمق كاف وبموضوعية علمية مخترقة، أدى إلى حالة من الجفاف والإفلاس والفقر الفكري، حتى لقد انتقل حلم الشعوب في التغيير من أيادي وعقول هؤلاء التقدميين المحبوسين في العشق والعبادة لعصر ترزح الشعوب تحت آثار مصائبه وكوارثه وأخطائه وهزائمه وفساده، إلى أصحاب الفكر الجامد المضاد في مجموعات السلفيين وفي اليمين صاحب الفكر الجامد المضاد للتغيير "ومحدش أحسن من حد" : ولسان الحال يقول إذا كان التقدميين ورواد التغيير تجمدوا في عبادة وعشق الحاكم المطلق الفرد البشري الخطاء فلماذا لا نندفع إلى السلفية ونمارس عشق المرسل المنزه العادل المحمي من الخطأ. لماذا نعشق ونعبد وننحني للبشر الخطائين ولنا من باب أولى أن نعشق ونعبد وننحنى للمقدس المنزل المنزه؟
طارق علي حسن
No comments:
Post a Comment