الثورة التي لم تحدث
ما أكثر التعبيرات التى نستعملها أتوماتيكياً دون أن نتمعن فى معانيها وهذا من أخطر ما يصيب مجتمع حيث يجد نفسه بالتدريج غارقاً فى بحر من الأوهام و غسيل المخ و الأكاذيب متناقضاً مع نفسه ومع حقائق العالم الذى يعيش فيه دون أن يكون عنده أدنى أمل فى تشخيص الحالة أو علاجها. ولا يبقى أمامه تجاه المعضلات المتصاعدة التى تواجهه إزاء العالم المحيط به إلا أن يندفع فى حلزون الإتهام المتشنج للأخرين وللمؤامرات الخارجية وللأعداء "الخونة" فى الداخل والخارج .
نبدأ بتعريف الثورة الذى نأخذه أتوماتيكياً بطريقة عجيبة فعلاً متناقضاً تاماً مع الواقع.
الواقع يقول لنا أن ما نسميه بأوتوماتيكية كاملة "ثورتنا" الحديثة تقلص معها التمكين بشكل حاد. فبينما كان التمكين قبل "الثورة" منحصرا في أصحاب الأراضي و أصحاب الأموال و قلة من المثقفين و الطبقة الوسطي، وهذه الطبقة الوسطي الحيوية تتطور ببطء و لكن في ثقة و فعالية، و هو المجتمع الذي كان يسمي -إدانة و احتقارا- بمجتمع النصف في المائة رغم أنه علي مظالمه كان مجتمعا حيا به ديناميات تطور و تفاعل و ابداع، نجد أنه بعد "الثورة" تم سحب التمكين من أصحاب الأراضي و أصحاب رؤوس الأموال و تم تهميش الطبقة الوسطي و سحب التمكين من النقابات والجمعيات و الأحزاب و كافة مؤسسات المجتمع المدني لينتهي مجتمع "الثورة" إلي مجتمع الواحد في العشرين مليون (ناصر/ناصر/ناصر كلنا ناصر!!) و هذا التراجع إلي مجتمع الواحد في العشرين مليون، بدلا من أن يتطور مجتمع النصف في المائة إلي مجتمع العشرة في المائة ثم العشرين في المائة ثم مجتمع المشاركة للجميع.
وهكذا لو كانت هناك ثورة حقا . و لكن " الثورة" حولت مجتمع النصف في المائة إلي مجتمع النصف في المليون!!!!!
و قد يحسب "للثورة" انها حطمت أسس و عمد و قواعد مجتمع كان في الأغلب مجتمعا ظالما و لكنه كان كما هو واضح لأي دارس منصف مجتمعا متحركا ونابضا ضد الظلم و التخلف. و عند الهدم يلاحظ ان "الثورة" فشلت في التفرقة بين الجيد و المفيد من القواعد و العمد الموجودة و الضارو الفاسد منه فتم التحطيم و سحب التمكين من الكل و من كل شئ. في ظل أفكار و رؤي ساذجة و متناقضة لشباب من الضباط قد يكونوا مفعمين بالوطنية و لكن آفاقهم و تجاربهم و فهمهم للاقتصاد وللديناميات العالمية و لتاريخ و آليات المسيرة البشرية نحو العدل و الحرية لا يتعدي فهم أو وعي طلاب الثانوية العامة محدودي التفوق.
نحن نرى أن الثورة فى النهاية هى أحداث تؤدى إلى تغيير مؤثر فى نمط العلاقات الإجتماعية وعلاقات الإنتاج والعمل و في وعي الانسان بنفسه و بالآخر و بحقوقه بما يؤدى إلي توسيع متصاعد في دائرة التمكين والمشاركة فى صنع القرار. وقد تمر الثورات والتغييرات الجذرية بمراحل إنتقالية ضرورية تقوم فيها جبهة الريادة فى الثورة بسحب التمكين بصفة انتقالية مؤقتة من أجل حماية بذور التغيير من أصحاب المصلحة فى إحباط التغيير .
الثوار حقاً يحرصون على أن تكون الفترة الإنتقالية انتقالية مؤقته فعلاً وبكل دقة بحيث يجرى تسليم السلطات إلى القواعد الأوسع بطريقة مؤكدة ومتصاعدة، والذى يحدث إذا لم يتواجد الوعى والإيمان بالثورة والتصمميم، و إذا لم ينجح "الثوار" في الحفاظ علي مباديء ثورةالعدل و الحرية و التطور، فوق شهوة و اغراء السلطة، يحدث أن الفترات الإنتقالية تستمر إلى الأبد "وأن القوى العدوانية المتربصة بالثورة في الداخل و الخارج " تدعم بإستمرار فى وعى الحكام والناس بالحق أو بالباطل(يلاحظ ان هذه النظم لا بد لها من عدو خارجي و عدو داخلي تخترعه إختراعا إذا اقتضي الأمر)، بحيث تتحول الفترة الإنتقالية (حالة الطوارئ) إلى إزمان ليس خلفيته بحق الخطر الداخلي و الخارجي و لكن فيروس السلطة و شهوة السلطة. وبتدريج غير محسوس، يفيق الشعب المصاب، إذا أفاق، ليجد الثوار وقد تحولوا إلى الطغاه الجدد يتمسكون بمقاليد السلطة المطلقة و بكل ضراوة "السلطة من أجل السلطة" و ليس من أجل التطور أو التغيير . وتحدث الطامة الكبرى حين ينجح الطغاه الجدد "ثوار الأمس " فى نسج قوانين وتشريعات الفترات الإنتقالية الإستثنائية فى النسيج التشريعى للمجتمع وفى دستوره و هي الطعنة النجلاء الكفيلة بقتل الحراك و التطور و النماء الاجتماعي لأجيال..
ونظرة من بعيد إلى هذه المجتمعات تظهر بوضوح تقلص دائرة التمكين حتى لينتهى الوضع مع "ثورة الحرية" وقد أفقدت كل فئات الشعب ومؤسساته وهيئاته بل وسلطاته المقدسة عناصر التمكين وأصبحت كلها مجرد توابع لأوتوقراطية أوليجاركية تستحوذ على كل السلطات وتسيطر عليها بإسم الملايين المقهورة. وقد أصبحت الأوتوقراطية الاوليجاركية صاحبة مصلحة أصيلة فى أن تظل الملايين المقهورة مقهورة و مجهلة إلى الأبد!!
وتدافع الأوليجاركية الجديدة عن سلطاتها المطلقة و عن بقائها الأبدي بقسوة وشراسة تفوق أقسى ممارسات رأس المال المستغل والفاسد وممارسات أشد الإقطاعيين شراسة، والتاريخ أمامنا يحكى الحكاية المأساوية المرة تلو الأخرى .
و مع إزمان الفترة الانتقالية و الحرية المؤجلة ينضب المجتمع و تجف حيويته وتتحول الشعارات الثورية العظيمة مثل تكافؤ الفرص ومثل مشاركة الجماهير والعمال والفلاحين ومثل التعليم المجانى ومثل التحرر من الفقر والتبعية والسيطرة الخارجية والإستعمار إلى مجرد نكات أليمة من المضحكات المبكيات حيث تقود هذه النظم مجتمعاتها إلى تبعية وإعتمادية أسوأ من أقسى أيام الإستعمار ويتحول التعليم "المجانى" إلى أعلى أنواع التعليم تكلفة مع رداءة منحدرة فى القيمة والكفاءة والقدرة على تقديم مؤهلين مطلوبين قادرين وعارفين بلغة العالم المعاصر. وبالتالى فيتحول هذا التعليم المكلف إلى وسيلة لشغل العائلات والأجيال وإفراز حاملى شهادات بالآلاف يلقون بلا دفاع أو مهارات مطلوبة أو فرص إلى سوق العمل أو بالأصح إلى سوق البطالة.
وأود في مقال قريب أن أقدم تحليل موازى -في دراسة عن غسيل المخ علي مستوي قومي- لمعنى العروبة والقومية العربية التى أخذناها من أعلي ورددناها أيضاً بأوتوماتيكية كاملة دون التمعن فى معناها ولا فى الأسس ولا الآليات التى تمكننا من تحقيقها.
أرى أن الكوارث التى قادنا إليها غياب التحليل المتمعن لمعانى الشعارات وآليات تطبيقها أصبحت تنادينا بإعادة النظر جذرياً فى تاريخنا المعاصر وأصبحت تنادينا بتحليل هادئ علمى لشعارات و مقولات تكاد تخنقنا خنقاً ومن أهم ما نحتاجه فى هذه اللحظة هو دستور جديد ومناخ تشريعى ثورى حقاً يضع القيم الإنسانية وقيم الحرية والعدل فوق كل الإعتبارات الأخرى، ويربط بين هذه القيم وآليات تطبيقها والدفاع عنها فى الدولة الحديثة، آخذين فى الإعتبار ما وصلت إليه البشرية فى مشوارها الطويل نحو التطور الفكرى والإجتماعى والدينى والسياسى. ونكرر أنه لا معنى للعدل بدون آليات تحميه ولا معنى لمفهوم المواطنة دون آليات تحمى حقوق المواطن الأساسية وتؤكد الأرضية لنمو و ممارسة مفاهيم مثل الحيادية والفصل بين السلطات وتداول السلطة بناء على إرادة قاعدية مستقلة لا سبيل إلى تزويرها أو التلاعب بارادتها الحرة أو بحقها في المعلومات و المعرفة.
هنا فقط إذا حققنا ما تقدم نستطيع أن نقول أن مصر مرت بحركة نهضة وثورة حقيقة وعادت بطريقة طبيعية إلى تقديم مثال جديد ومتفوق يحتذى به إلى الأمم العربية والإسلامية وأمم الشرق الأوسط . و بدون هذه البديهيات فكل الادعاءات بحدوث ثورة"مجيدة" هو من قبل تدعيم الأوهام التي تؤخر التطور! و لا بد من التفرقة المفاهيمية الواضحة بين هجوم تحطيمي لتحطيم و تمزيق عمد و أواصر و أسس مجتمع (ظالم) وهذا ليس بثورة و لكن أقرب إلي معركة حربية أو حملة تأديبية يتم فيها تحطيم و تطويع و اخضاع كافة عناصر و قوي المجتمع وهو حدث مجتمعي ضخم، و لكنه أبعد ما يكون عن الثورة و ما يواكبها بالضرورة من تحرك نشط نحو النهضة التي تتطلب عملية زرع و رعاية و تنمية مجتمع جديد متحرر آمن و منتج أقرب إلي العدالة مطمئن إلي قدسية القانون و آليات حماية الحقوق، تتسع فيه طبعا دوائر التمكين لتشمل الجميع و هذه هي الثورة –التي لم تحدث!
و بكل بساطة نجد ثورة 23يوليو 1952 في مصر هي بكل مأساوية "ثورة مخطوفة" لم يتح لها ديناميات التطور إلا أقل من سنتين فقط (تم خطفها في مارس 1954)!
والآن بعد تراكم النكسات -التي لا تلغي آثارها المدمرة بعض الانتصارات المبكرة- أصبح علي الشعب و ممثليه الطبيعيين تسلم مقاليد القيادة و تصعيد أهل الحكمة و العدالة وقد تكاثرت الكوارث و النكسات و تعاظم الفساد. وأقترح أن يتقدم تجمع من كافة القوي الشعب بقرار حكيم يشمل العفو الكامل و العام عن كل رموز و عناصر "الثورة" المخطوفة و التأمين الكامل لهم ضد المحاكمة أو الادانة فيكفي الشعب و التاريخ ما نحن فيه من إدانة عالمية عملية ألا وهي الفشل الذريع في دخول مصر عصر النهضة و المشاركة والريادة والعدل الاجتماعي، والحكمة تقتضي أن نحرر أقطاب النظام الفاشل و الفاسد من خوف بل رعب المساءلة الحيادية، و هو الرعب الذي يجعلهم يتمسكون رغم تصاعد الفشل بالسلطة بجنون و هستيرية حتي و لو أدي ذلك التمسك المتشنج إلي غرق سفينة الوطن بأسرها! إن دخول الوطن عصر التهضة بقوة، أهم بكثير من تعقب فئات الجناة الذين انغمسوا في غسيل المخ وجمدوا حراك الوطن و تطوره وتعاموا عامديم متعمدين عن كل القيم من أجل السلطة و التميز.
قوة دفع النهضة حين يتاح لها التحرك بلا عوائق كفيلة وحدها بتصحيح السلوكيات المنحرفة و بخلق المناخ الذي يفرض الشفافية و المسئولية و المساءلة المفقودة و كلها عناصر أساسية للنهضة إن نجحت عناصر الحكمة في المجتمع في توليدها. و لا تشمل عناصر النهضة التنكيل أو الانتقام أو إدانة من سبق و ما سبق بل الاستفادة فقط من دروس السلبيات و الترديات لكي نحمي آليات عدم التكرار
ببساطة الثورة هي توسيع دوائر التمكين و تغير كيفي عميق في وعي الناس وفي ممارسة العلاقات الانسانية الحساسة(حاكم/محكوم،معلم/متعلم، ضعيف/قوي، غني/فقير ، جيل سابق/ جيل جديد، متدين/غير متدين، رجل/إمرأة....إلخ) لتتحول جميعا إلي علاقات تفاعلية تحترم كاملا حقوق كل أطرافها في الكينونة و التطور الحر بدلا من علاقات القسرو القهر و الاذعان التي تسود في الجيوش و في المجتمعات القهرية. و علي الشعوب التي ذاقت مرارة سحب التمكين ألا تفرط من جديد في حقوقها أبدا مهما كانت الشعارات و المبررات – الخادعة دائما
دكتور طارق علي حسن
أستاذ متفرغ الأمراض الباطنة و الغدد بجامعة الأزهر
1 comment:
very illuminating
Post a Comment